سردية الوجود!

برغم الوثنية الطافحة في سردية اليونان الكبرى، أعني إلياذة هوميروس، إلا أنها امتدت رمزيا في العالم، وظهرت في التوظيف الأدبي والنقدي، لاسيما الشعر الحديث، بأسماء هذه الأساطير، بما في ذلك الأولمب نفسها مما يعني امتداد هذا النموذج في التراث الإنساني وذلك بفعل الحضارة الغربية التي جعلت مرجعيتها هذه السردية ترميزا وتوظيفا فاحتذى طريقها المفكرون والأدباء الذين يستقون من نفس المورد ومن نفس النموذج المهيمن، وكان لشعراء الحداثة النصيب الأوفر في توظيف الميثولوجيا اليونانية. وبالنظر كرة أخرى في هذه السردية يظهر أنها بنيةٌ مشوهة لبناء سردية كونية في مقابل سردية الوجود التوحيدية التي جاءت بها الأديان السماوية؛ ففي المنظومة اليونانية يتربّع (زيوس) سيد الأولمب، في مقابل الله، والآلهة الوثنية المتعددة في مقابل الملائكة الأبرار، وهكذا تجد لكل ظاهرة طبيعية إلها متصرّفا في الميثولوجيا اليونانية في حين أنه يمكن إزاحة هذا الفكر الوثني والنظر إلى الكون في تراتبية يقرّها العقل ويبرهن عليها، ولا تتعارض مع نظام العالم المتسق، وهو ما احتج به القرآن على المشركين في تعدد الآلهة: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله؛ إذًا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}، وقوله تعالى:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، في برهان عقلي لا يقبل الشك والجدل. وذلك ما حدث تخييلا في الإلياذة بحسب التصور اليوناني الوثني، حيث اشتبكت الإلهة مع الأبطال الأسطوريين في حرب طروادة فكانت ميثولوجيا الفوضى الكونية. لا ريب أن سردية التوحيد هي أصل الوجود، وأن ثمة ما حدث لاحقا من تصورات أسطورية ووثنية أدّت إلى الانحراف في التصور الوجودي، ذلك أن البشر اجتالتهم الشياطين، كما ورد في الحديث، فحرفتهم عن مسيرة التوحيد، ولهذا جاءت رسالة الأنبياء لإعادة الناس إلى النبع الأوّل، وإلى أصول الحقائق الكبرى قبل تراكم الثقافات واختلاف التصورات واختلاط الحقائق الكونية بأساطير الشعوب. الغريب في الأمر أن هذه المجازات رغم ارتباطها بالتصور الأسطوري والمبثولوجي للوثنية القديمة والفكر البدائي في الملاحم الكبرى= وجدت ترحيبا في معجم التنوير الثقافي والعقل الفلسفي فصارت تصوغ المقولات والأفكار والرؤى النقدية والأدبية عبر مختبرها السردي والدلالي بما يدلّ على هيمنة النموذج الغربي في صناعة الخطاب وصياغة الرؤية الكلية للعالم التابع لهذا الفكر بمختلف اتجاهاته ومساراته، ودروبه ومسالكه.