المثقّفون يعشقون كرة القدم.

يُصِرّ بعض المُثقّفين على أن الرياضة بصفةٍ عامّة ملهاة للشعوب عن القضايا الهامّة، ويتوارون خجلاً لأنهم لا يستطيعون أن يجمعوا ولو نسبة بسيطة من جماهير كُرة القدم بالذّات في ندواتٍ ثقافيّة، أو أُمسياتٍ شِعريّة، ويحتجّون بأن تلك الجماهير في مُعظمها هُم من محدودي الثقافة، وليس لديهم اهتمامات فكريّة رفيعة المستوى. ويدّعون بأنه لا يوجد لدينا في العالم الثالث، مُقابل تحقيق الانتصارات الكُروية إنجازات في مجالاتٍ أُخرى مُهمّة، مثل الأدب والعلوم والطِبّ وغزو الفضاء.. الخ. صحيحٌ أن هذا الهوَس بالكُرة موجودٌ، وربّما بشكلٍ أكبر في بُلدانٍ مُتقدّمة؛ ولكن لديهم في نفس الوقت إنجازات في شتّى المجالات الثقافية والعلمية والفكرية. ويورد بعض هؤلاء المثقّفين شواهد على رأيهم بأن بعض كبار الأدباء يُشاركونهم فيما يذهبون إليه.. فبالرغم من أن الأستاذ “نجيب محفوظ” مثلاً من هواة ومُمارسيّ كُرة القدم في شبابه، إلا أنه قال على لسان إحدى شخصيّات رواياته: “لا كرامة لإنسانٍ عندكم، إذا لم يكُن بهلواناً أو لاعب كُرة”. أو قول الأستاذ “توفيق الحكيم”، عندما علِم بإن بعض لاعبيّ كُرة القدم يحصلون على مبالغ طائلة: “لقد انتهى عصر القلَم، وابتدأ عصر القدَم”! ولكن على أرض الواقع، تبدو مسألة كراهية المثقّفين لكُرة القدم شائعة أكثر منها حقيقة؛ إذ يوجد الكثير من المثقّفين المسكونين بحُبّ الكُرة، والذين يتركون كُتبهم وأقلامهم من أجل مُشاهدة بعض المباريات الهامّة للفِرَق التي يُشجّعونها، ويتناقشون مع أصدقائهم حولها بحماس. وفي الحقيقة فإن هذه الرياضة لُعبة جميلة تعتمد على المهارات الفردية، في إطار أداءٍ جَماعيّ، وفي إيقاعها مُتعة بصرية في أداء اللّاعبين، إضافةً إلى جاذبية الفوز والخسارة لكُلّ فريق.. إن للكٌرة سِحر يجذب الجماهير، خاصّةً أثناء مُشاهدة تنفيذ الخُطط المرسومة، والحالة الاستعراضية التي تُميّز أداء الفِرَق، فضلاً عن الجوانب الكرنفالية، سواءً داخل المُدرّجات أو خارجها، وهي المظاهر التي تخلق المُتعة والإثارة. ولكن من جهة أُخرى، وبالرغم من المكانة العالمية التي باتت تحظى بها هذه الرياضة، وكلّ الاحتفاليات المُصحابة لفعالياتها، والتسويق المُذهل الذي يُحيط بها، إلا أنها لا تزال كمادةٍ بحثية قليلة التداول في الأوساط العلمية والأكاديمية؛ فلا الفلسفة ولا علم الاجتماع أخذتا بمحمل الجِدّ ظاهرة شغف الشعوب حول العالم بها، ولم ينتبه أحدٌ لدراستها وتحليلها. بل إن أحد أقطاب علم الاجتماع في فرنسا، على سبيل المثال، “بيير بوردو” قد قلّل من قيمة وأهمية كُرة القدم، على اعتبار أن الرياضة بصفة عامّة، كمادّةٍ بحثية، تفتقد لكلّ شرعية أكاديمية، وقال: “يصعب دراسة وتحليل الرياضة بطريقة علمية، لأنها مادّة تخلو من العُمق، فلا أحد يُريد أن يهتمّ بهذا الموضوع، لكي لا يُقال أنه يفتقد للذوق الرفيع”! وهُنا يُشير “بوردو” للصوّر النمطية المُتحيّزة التي غالباً ما يتمّ ربطُها بعالَم كرة القدم؛ كصورة الجماهير الذين هُم في الغالب ينحدرون من أوساطٍ شعبية، وكثيراً ما يُقدَّمون على أنهم عنيفون، محدودو الذّكاء، أو مُتعصّبون لفِرَقهم. ولكن بالنظر إلى الجانب الآخر الأكثر إشراقاً، نجد بعض كبار الأدباء الذين لم يُخفوا شغَفهم بالساحرة المستديرة، كالأديب الفرنسي الكبير “البير كامو”؛ الحاصل على جائزة “نوبل” والحارس السابق لفريق “راسينج” الباريسي، الذي كتب: “لم أعرف في أي مجال، باستثناء الرياضة الجماعية، هذا الشعور القوي بالأمل والتضامن، الذي يُصاحب أيام التدريب الطويلة إلى غاية الفوز أو الهزيمة.. المباديء التي أعرفها تعلّمتها في ملاعب كرة القدم، وعلى خشبات المسرح، وهي بالنسبة لي المدرسة الحقيقية”. ولكن هذا التجاهل أصبح شيئاً من الماضي، وبدأت الكرة المستديرة تجذب انتباه طبقة النخبة في فرنسا، ابتداءً من عام 1998، وهو تاريخ تتويج فرنسا بطلةً لكأس العالم.. هُنا وفجأةً بدأت المثقّفون يتوافدون على وسائل الإعلام، وقد تخلّصوا من عُقَدهم وازدراءهم لهذه الرياضة، للحديث عنها بوصفهم خُبراء، وانطلاقاً من هذه اللحظة أصبح التعامل مع ظاهرة كرة القدم أمراً مشروعاً. وفي ألمانيا، التي جعلت الأدب جزءً من خُطّة الترويج لكأس العالم 2006، قام مُنظّمو البطولة بتوجيه الدعوة لعددٍ من أهمّ أدباء العالم لحضور المونديال، ولم يتردّد المنظّمون في تخصيص قسمٍ خاصّ تحت عنوان “أدب الأقدام في المونديال”؛ ويحتوي هذا القسم على أهمّ الكُتب والروايات التي اهتمّت بالكرة. وكتب الروائي الإيطالي “أمبرتو إيكو” مقالاً أكّد فيه أن عشق كرة القدم مُتعة لا تنتهي، وأن مُشاهدة المباراة وحدها لا تكفي، فهناك مُتعة في مُتابعة التعليقات حولها عبر مواقع الصّحف والقنوات الفضائية.. فالكرة ظاهرة اجتماعية تستحقّ أن تكون مُتعة الحياة اليومية”. وحتى الفلاسفة، قد أصابهم من سِحر الساحرة المستديرة ما أصابهم، فقد انتبه الفيلسوف النمساوي “فيتغنشتاين”، بفضل كرة القدم التي كان مُغرماً بها، إلى أن الفلسفة -ومثلها كلّ نشاطٍ لُغويّ- هي لُعبة.. وكذلك الكتابة؛ ما هي إلا استعارات ومجازات وكِنايات وتشبيهات، هي في مجموعها قواعد تُطابق قواعد لُعبة كرة القدم، وأن أهميّة كلّ كلمةٍ توازي أهميّة كلّ لاعبٍ في مركزه. ويضرب هذا الفيلسوف مثالاً على فِكرته، فيقول: “يصرف “ليونيل ميسّي” جُهده الأكبر، لا في الركض ولا في المُراوغة، بل في التلفّت يمنة ويسرة، لرصد الساحة بأكملها، وفي الاحتفاظ بطاقته كاملة، إلى أن تحين لحظته التي يحسم بها الأمر بحركةٍ واحدة.. بينما يصرف “كريستيانو رونالدو” كلّ طاقته في الجُهد الانضباطي، والحركة الدائمة، والتعامل مع المباراة في دقائقها بالوتيرة ذاتها.. هذه الحريّة، وذلك الارتجال، جعلا من كرة القدم أداءً مُنفرداً مُتناغماً، يُتيح لبعض العازفين المهَرة، طليقيّ الروح، أن يخرجوا على النصّ، ليغدو العمل فيه قمّة الكمال”! وقال الكاتب “إدواردو غاليانو” في كتابه “كرة القدم بين الشمس والظِلّ”، واصفاً حركة اللّاعب الأسطورة “بيليه”: “لقد قطع خصومه كما السكّين الساخنة عبر الزُبدة”! وطرّز الشاعر “محمود درويش” غزليّة خالدة في “مارادونا” في عام 1986، بعنوان “لن يجدوا دماً في عُروقه، بل وُقود الصواريخ”! يقول “درويش”: “مارادونا هو النجم الذي لا تُزاحمه النجوم، دانت له بقدر ما دان هو لكُرة القدم.. النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته، لتفتتن بما تراه، لتُنشد نشيد المدائح لمن جعلها تُهزَم بهذا الامتنان، فما أسعد من هزمته قدم مارادونا”!