
في عالم يتصارع مع أزمة المناخ، تقف المملكة العربية السعودية اليوم في موقع فريد، حيث تجمع بين أقدس بقاع الأرض وأكثرها ازدحامًا بالبشر، وبين طموح بيئي يسعى لحماية الأرض للأجيال القادمة. هذه المعادلة ليست مهمة سهلة، لكنها تعبر عن روح القيادة السعودية الوثّابة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة. البيئة في الإسلام، ليست مجرد مورد، بل هي جزء من خلق الله، ينبغي الحفاظ عليها وصيانتها. “وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا” الآية 56 - سورة الأعراف. هذه الآية الكريمة تًلَخِّص جوهر العلاقة بين الإنسان والبيئة. والحج، بما فيه من طقوس مرتبطة بالماء والأرض والهواء، يعيدنا إلى هذه العلاقة، ويذكرنا بأن التدافع إلى الله تعالى يقترن بالحفاظ على ما وهبه لنا – سبحانه - من نِعَمٍ لا تٌعَد ولا تحصى. في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، الموافق لليوم لخامس من شهر يونيو يتلاقى مشهدان عظيمان: مشهد ملايين الحجيج الواقفين على صعيد عرفات، ومشهد اليوم العالمي للبيئة الذي يدق أجراسه حول العالم. مشهدان يتقاطعان في هذه السنة على أرض المملكة العربية السعودية، تلك البقاع الطاهرة التي تجد نفسها في قلب العالم، حاملة لواءين: لواء خدمة ضيوف الرحمن، ولواء الريادة البيئية. وعندما يتزامن يوم عرفة مع اليوم العالمي للبيئة، والذي لن يتكرر مرة أخرة إلا في عام 2056م فإن ذلك يفتح باب التأمل حول الرابط العميق بين القيم الروحانية والقيم البيئية. ففي الوقت الذي يجتمع فيه ملايين البشر على صعيد عرفات للدعاء والتوبة، يذكرنا اليوم العالمي للبيئة بأن الأرض التي نمشي عليها هي أمانة غالية، وأن الحفاظ عليها مسؤولية جماعية. يوم عرفة ليس مجرد يوم في تقويم الحج، بل هو ذروة العبادات والتضرعات إلى الله تعالى. ففي هذا اليوم، يأتي الحجيج من كل فج عميق، ويقفون على صعيد واحد، يرفعون الأكف بالدعاء إلى الله تعالى، وتتلاشى الفوارق بين الألوان واللغات والجنسيات. تتسع قلوبهم، كما تتسع رقعة الأرض التي تحتضنهم. فالمملكة العربية السعودية، منذ توحيدها على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن – طيب الله ثراه - وحتى اليوم، لم تدخر جهدًا في تسخير كل طاقاتها وإمكاناتها لضمان أمن وسلامة وراحة ضيوف الرحمن. منذ لحظة وصول الحجاج، تتحرك منظومة متكاملة من الخدمات اللوجستية والصحية، والأمنية، والإدارية، والبيئية. تسهر فرق طبية مجهزة بأحدث الوسائل على رعاية الحجيج، وتنتشر فرق الأمن لتأمين انسيابية الحركة في الطرق والمسارات. أما حملات التوعية، فهي تعمل على مدار الساعة لضمان التزام الحجاج بالتعليمات الصحية والبيئية وفقًا لأرقى المعايير العالمية المعتمدة. لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون المملكة العربية السعودية رائدة في مجال الاستدامة البيئية. فقد أطلقت في السنوات الأخيرة، مبادرات كبرى مثل “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر” لتضع نفسها في مصاف الدول الساعية إلى حماية البيئة وتقليل الانبعاثات الكربونية. حيث تهدف مبادرة “السعودية الخضراء” إلى زراعة عشرة (10) مليارات شجرة داخل المملكة خلال العقود القادمة، وتقليل الانبعاثات الكربونية بنسبة تزيد عن (278) مليون طن سنويًا بحلول عام 2030. وفي خطوة استراتيجية لحماية التنوع البيولوجي، تسعى إلى حماية (30%) من المساحة البرية والبحرية للمملكة. وهذه المبادرات لم تأتِ من فراغ، بل تعبر عن التزام المملكة برؤية 2030، التي وضعت الاستدامة البيئية في صميم خططها التنموية. لقد أدركت المملكة أن إدارة الحج ليست مجرد تنظيم بشري فحسب، بل مسؤولية بيئية ضخمة. لذلك، تعمل وزارة الحج والعمرة، بالتعاون مع الجهات المختصة، على تطبيق مبادئ الاستدامة خلال موسم الحج. من أبرز هذه المبادرات: استخدام الحافلات الكهربائية لنقل الحجاج، لتقليل الانبعاثات الضارة. وإعادة تدوير النفايات في المشاعر المقدسة، من خلال حملات توعية مكثفة، وفرز ذكي. وترشيد استهلاك المياه والطاقة. وتشجير المشاعر المقدسة، ضمن مبادرة السعودية الخضراء، لتحسين جودة الهواء وتلطيف حرارة الجو. وعندما يجتمع الحجيج هذا العام في يوم عرفة، فإنهم يرون بأعينهم كيف أن المملكة لم تكتفِ بتقديم الخدمات الأساسية فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى دمج الاستدامة في صميم تجربتهم الروحية. هذه الرسالة ليست للحجاج فقط، بل للعالم أجمع: أن الدين والبيئة وجهان لعملة واحدة، وأن الحفاظ على الأرض يبدأ من الإيمان العميق بقيم الخير والرحمة والعدالة. بين صعيد عرفات ومبادرات البيئة، نجد السعودية في قلب العالم، تجمع بين خدمة الإنسان وحماية الأرض. تُسَطِّر رسالة مزدوجة للعالم: أن الدين ليس منفصلًا عن الحياة، وأن الحفاظ على البيئة هو واجب أخلاقي وديني. وتكتب قصة جديدة عنوانها: قيادة حكيمة، عطاء بلا حدود، ورؤية للمستقبل قائمة على الإيمان، العمل، والاستدامة. إن توافق يوم عرفة مع اليوم العالمي للبيئة في اليوم الخامس من شهر يونيو ليس مجرد تزامن في التواريخ، بل فرصة نادرة للتأمل والعمل. دعوة لكل إنسان، سواء كان حاجًا في عرفات أو مواطنًا في أي بقعة من الأرض، ليتساءل: ما الذي يمكنني أن أفعله للحفاظ على هذا الكوكب الأزرق؟