حين توقفت مجلة «الحج»:

قصة أول مطبوعة سعودية اختفت بصمت.

لم يكن يُتوقع أن تعيش مجلة الحج طويلاً في العصر الرقمي، ومع ذلك، فقد ظلّت لعقود حاضرة في الوعي الثقافي السعودي، حتى وإن كانت نسخها تتناقص وحضورها يتضاءل. اليوم، بعد أكثر من 75 عامًا من الإصدار الأول، توقفت المجلة التي تُعد أول مجلة سعودية، رسميًا عن الصدور، في لحظة صامتة لم تحظَ بالكثير من التأبين أو حتى الجدل، وكأن التاريخ صار يُختزل في الملفات الرقمية. صدرت مجلة الحج لأول مرة عام 1366هـ- 1947، تحت إشراف من إدارة شؤون الحج آنذاك، وكانت بمثابة النافذة الرسمية التي تطل منها المملكة على العالم الإسلامي، بلغة تجمع بين الأدب والخطاب الديني والتوثيق الصحفي. ومع كل موسم حج، كانت المجلة تعيد تقديم صورة المملكة خادمة للحرمين الشريفين، تكتب وتصور وتنشر لتوثق وتفخر. ما دفعني للكتابة اليوم عن مجلة الحج لم يكن فقط اختفاؤها من المشهد، بل تلك المقارنة التي فرضها عليّ مقال قرأته مؤخراً بعنوان «الطباعة ماتت… لكن لا تخبروا مايكروسوفت» للكاتبة سارة غريفي غوتفريدسن. كان المقال يتناول مفارقة عودة المجلات الورقية في عصر يعتقد الجميع فيه أن زمن الورق قد ولى بلا رجعة. تحدثت الكاتبة عن تجارب إعلامية حديثة مثل إطلاق شركة مايكروسوفت لمجلة فاخرة جديدة بعنوان Signal، يبلغ عدد صفحاتها 120 صفحة وتستهدف قادة الأعمال. تضم المجلة مقالات من كبار مسؤولي الشركة، على رأسهم بيل غيتس وساتيا ناديلا، وتُقدَّم كمنتج فاخر لا يُنشر رقمياً، بل يُقرأ ويتأمل. لم يكن المقال مجرد تقرير إعلامي، بل دعوة للتفكير في معنى المطبوع وسط سيل المحتوى الرقمي. في الأسبوع الماضي، سنحت لي الفرصة لقاء الأستاذ حسين بافقيه في جدة، وهو أحد رؤساء تحرير مجلة الحج في فترة سابقة، وصاحب تجربة ثرية في العمل الثقافي والإعلامي. كان حوارنا ماتعًا وعميقًا، استرجع فيه بافقيه ذكرياته مع المجلة، وتحدث بحرارة عن مكانتها الرمزية في المشهد الثقافي السعودي، وارتباطها الوثيق بهوية المملكة كراعية للمشاعر المقدسة. تحدثنا أيضًا عن الأسباب التي يراها وراء توقف المجلة، من بينها تغيّر أولويات المؤسسات الإعلامية، وتراجع الدعم المخصص للمنصات الورقية المتخصصة. لكن ما لفتني أكثر كان إصراره على أن المجلة يمكن أن تعود، ولكن بروح جديدة: مجلة فكرية-تاريخية توثّق الحج لا كموسم ديني فحسب، بل كحكاية حضارية متجددة، تستحق أن تُروى للأجيال القادمة بلغة تحفظ المهابة وتخاطب العقل والعاطفة معًا. ربما كانت أكبر خسارة في توقف المجلة، كما يراها بعض الباحثين، هي فقدان مساحة كانت تزاوج بين التوثيق الرسمي والصوت الإنساني للحجاج. فقد ضمّت المجلة على مر السنوات قصصًا شخصية لحجاج من أقاصي الأرض، مع صور التقطها محرروها في مواسم حج ازدحمت بالمعاني. والسؤال هنا: هل من الممكن أن تعود مجلة الحج؟ على الأرجح، لا بنسختها السابقة. ولكن، كما ألهمت مجلة Costco Connection تجربة Signal لدى مايكروسوفت، فقد تعود الحج في هيئة جديدة، مجلة موسمية فاخرة، موجهة لقراء مهتمين بتاريخ المشاعر المقدسة وتحوّلات الحج في العصر الحديث. نسخة تطبع على ورق ثقيل، وتوزّع في المعارض والمؤتمرات الدولية، وربما في الفنادق المطلة على الحرم. في النهاية، توقف المجلات لا يعني نهاية القصة، بل مجرد انتقالها إلى وسيط مختلف. ومثلما تبقى صور الحج العتيقة تُلهم صناع الوثائقيات والمصممين، فإن صفحات الحج قد تعود، لا لتخبرنا بما حدث، بل لتذكّرنا بما كنّا نكتبه ونعيشه، في مواسم لم تكن تتكرر إلا مرة كل عام… * الأستاذ المساعد في قسم الاتصال والإعلام- جامعة طيبة.