أحكام متسرّعة على عتبة الإبداع.

مع الوقت، بدأت أفهم أن الثقافة ليست ما نحمله من معلومات، بل ما تتركه القراءة فينا من أثر. هي تلك المساحة التي نتعلم فيها كيف نفكر بهدوء، ونعترف بنقصنا دون خجل، ونراجع أحكامنا قبل أن نطلقها. فكلما ازددتُ قراءة، شعرتُ أنني أعرف أقل، والإنسان عليه أن يسعى ويأخذ بأسباب العلم، لأن الجهل يُصدي، كما قيل: والنَّفْسُ عادِمَةُ الكَمَالِ وإنَّما بالبَحْثِ عن عِلْمِ الحقائِقِ تَكْمُلُ والمَرْءُ مِثْلُ النَّصْلِ في إصْدائِهِ والجَهْلُ يُصْدِي والتَّفَهُّمُ يَصْقُلُ تبقى المشكلة في الأحكام الجاهزة المستعجلة التي يطلقها بعض النقاد، والتي لا تمنحنا رؤية دقيقة، ولا تتيح لنا فهم الظواهر الإبداعية وتحليلها. فثمة دومًا قراءة أهدأ، وأعمق، تعيد الأمور إلى نصابها بعيدًا عن التسرع والانفعال. ومن هنا يأتي دور البحث العلمي الجاد، القائم على معايير منهجية رصينة. علمتني القراءة ألا أتعجل الحكم، بل أن أستمتع، وأتأمل، وأتساءل. وأدركت دومًا أن في الساحة من يمتلكون رؤى عميقة ومعرفة واسعة، وأننا جميعًا، منذ أن طرقنا باب الثقافة، لا نزال نتعلم. وظاهرة النقاش أو “المعارك الثقافية” قديمة ومستمرة في الثقافة العربية، لكنها تنزلق أحيانًا إلى مماحكات شخصية لإثبات الذات، أكثر من كونها نقاشات حول الفكرة أو مراجعات لأعمال فكرية. لقد رأينا جدالاتٍ حول القديم والحديث، والنزاع المستمر بين الشعر النبطي والفصيح، والخلاف حول قصيدة النثر، وأخيرًا الجدل المتزايد حول الفانتازيا وبعض أوجه الكتابة الروائية، وقد جنحت بعض الآراء بعيدًا عن النص إلى نقاشاتٍ شخصية. ومن يتأمل المشهد يرى أن بعض الأحكام على النصوص الإبداعية لا تصدر عن قراءة متأنية، بل عن انطباعٍ سريع أو توقّعٍ وموقف مسبق. وهكذا يُدان النص قبل أن يُفهم. لذا، نحتاج إلى قارئٍ ناقد يُنصت، لا قارئٍ يقفز إلى الخلاصات دون تمهّل. ولهذا، فإن الحكم على النصوص الإبداعية خصوصًا ما ينتجه الشباب في زمنٍ سريع الإيقاع يتطلّب تأنيًا أعمق، واستيعابًا لتغيّر المرجعيات الثقافية ووسائط التلقّي. ولا يجوز قياسه دائمًا بمقاييس الأمس، كما لا ينبغي رفضه تلقائيًا لمجرّد اختلافه عن المعتاد. فهل نمنح النصوص الإبداعية الحديثة حقّها من الإنصات؟ أم أننا أسرى لذائقةٍ سريعة وأحكامٍ جاهزة؟