
تشترك البيئتان القيمية والطبيعية في كونهما إطارين حاضنين للحياة، يرسمان معالمها وينظمان إيقاعاتها. إلا أن كليهما يشهدان اليوم تدهورًا متسارعًا تعود أسبابه إلى اختلال العلاقة بين الإنسان ومنظومته المحيطة. في البيئة القيمية، تتجلّى التغيرات السلبية بتآكل المبادئ الإنسانية المشتركة، كالتسامح، والصدق، والشعور بالمسؤولية، لصالح نزعات فردانية مفرطة، تغذيها وسائل الإعلام المعولمة، ومؤثرات الاقتصاد الاستهلاكي، مما أضعف البنية الأخلاقية للمجتمعات وقلَّص من مساحة القيم الجامعة. وفي المقابل: تعاني البيئة الطبيعية من اعتلال مماثل، تغذيه نزعة استغلالية جائرة تجاه الموارد، دون اعتبار للتوازن البيئي أو حقوق الأجيال القادمة. يتجلّى ذلك في التغير المناخي، وتدهور التنوع الحيوي، وتلوث المياه والهواء. وكأن الفساد القيمي قد انعكس في السلوك الإنساني تجاه الطبيعة، فحيثما تنهار القيم تسقط معها قدرة الإنسان على التوازن، سواء مع ذاته أو مع الأرض. إن استعادة التوازن القيمي شرطٌ أوليٌّ لإعادة الانسجام مع البيئة الطبيعية، إذ لا حماية حقيقية للطبيعة دون وعي أخلاقي يعيد للإنسان انضباطه واعتداله. في قلب النقاشات المعاصرة حول المناخ والبيئة، تغيب في كثير من الأحيان مسألة جوهرية مفادها: أنَّ التدهور البيئي ليس سوى انعكاس مرآتي لتدهور أعمق وأخطر، ذلكم هو التدهور القيمي. ففي الآونة التي تتراجع فيها المبادئ الأخلاقية، وتُستبدل قيم التكافل والاستدامة، بثقافة الأنانية والاستغلال السريع، يتحوّل الإنسان من ابن بارٍ بالطبيعة إلى مستهلك متوحش لها. القيم ليست شعارات شعبوية جوفاء تُرفع بلا وعي لمعانيها، ولا وصايا أخلاقية تُردد بلا فهم لمراميها؛ بل هي البنية الناعمة، الخفية، التي تشكل جوهر كل سلوك بشري. وكما قال الفيلسوف كانط، “القانون الأخلاقي ليس مجرد قاعدة نختار اتباعها، بل هو البنية الخفية التي تمنح حياتنا معنى وتحدد أفعالنا”. كما يرى ميخائيل نعيمة “أن القيم ليست كلمة تقال أو شعارًا يُرفع، بل هي كالنور، لا تراه العين، ولكنه يجعل كل شيء مرئيًا”. وحينما تفقد المجتمعات قيم الصدق والاعتدال، تنزلق حتمًا إلى أنماط استهلاكية منحرفة، تفتقر إلى الاستدامة، وتغذي الظلم البيئي الذي يقود، في النهاية، إلى تدهور اجتماعي محتوم. لقد أشار المفكر الفرنسي إدغار موران إلى هذه العلاقة حين كتب” إن أزمة البيئة ليست فقط أزمة موارد، بل هي أزمة حضارة، أزمة في الطريقة التي يرى بها الإنسان ذاته وعلاقته بالعالم”. وعندما ننظر إلى النماذج الاقتصادية السائدة، نجدها تعزز قيم التوسع اللانهائي على حساب توازن الحياة على ظهر الكوكب، وتعامل الطبيعة كخزان موارد لا ينضب، متجاهلة حدودها الفيزيائية والبيولوجية. وسبق أن ذكرت في مقال سابق في مجلة اليمامة: إن البيئة والمجتمع توأم سيامي، وكل منهما معتمد على الآخر، ولا يمكن فصلهما عن يعض. ولهذه العلاقة العضوية بين مكونات المجتمع والجوانب الإيكولوجية للبيئة استحدث فقهاء “علم الاجتماع” سٍفْرًا جديدًا أسموه” علم الاجتماع البيئي” حيث يبرز – هذا العلم - العلاقة الأزلية بين “المجتمع” و “البيئة” وتأثير كل منهما على الآخر. فحين تبكي “البيئة” يحزن “المجتمع” وعندما يكتئب “المجتمع” تتدهور “البيئة”. تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن العالم يفقد سنويًا ما يعادل (10) مليون هكتار من الغابات، أي ما يعادل مساحة كوريا الجنوبية، وتسهم هذه الخسارة بشكل مباشر في تفاقم الاحتباس الحراري وتراجع التنوع البيولوجي. لكن وراء كل إحصائية، تقف قرارات بشرية تحركها دوافع منفعية. فالفساد السياسي الذي يسمح بإزالة الغابات في الأمازون، والجشع الصناعي الذي يغمر المحيطات بالبلاستيك، واللامبالاة الفردية التي تهدر الماء والطاقة، كلها تبدأ من خلل في منظومة القيم، ولعل أوضح تجسيد لهذه العلاقة نجده في قصة سقوط حضارة (جزيرة القيامة) الواقعة في جنوب المحيط الهندي، حيث أدى الإفراط في قطع الأشجار من أجل نقل التماثيل الضخمة إلى تدهور بيئي كارثي، وأسقط حضارة الجزيرة برمتها. ثمة تجارب دولية تؤكد أن تحسين البيئة القيمية للمجتمع يمكن أن يكون نقطة انطلاق فاعلة لمعالجة الأزمات البيئية. على سبيل المثال، استطاعت المملكة العربية السعودية توسيع حماية بساطها النباتي، إلى (18%) من مساحة المملكة. ليبلغ (30%) في عام 2030م، وذلك نتيجة سياسة وطنية تأسست على مفاهيم العدالة البيئية وحق الأجيال القادمة. وفي تجربة أخرى، وضعت (مملكة بوتان) الحفاظ على البيئة كأحد معايير قياس “السعادة الوطنية الإجمالية” بدلًا من الناتج المحلي، فظلت واحدة من الدول القليلة التي تمتص كربونًا أكثر مما تنتج. هذه النماذج توضح أن القرار السياسي القائم على رؤية قِيَمِيَّة يمكنه أن يوجّه الاقتصاد والتعليم والتخطيط الحضري نحو انسجام مع الطبيعة. فنحن (لا نملك سوى أرضًا واحدةً) كما نادى بذلك شعار “اليوم العالمي للبيئة” لعام 2022م. الطبيعة ليست مجرد مسرح للأحياء، بل هي مرآة تعكس حضور الإنسان، وظلال قيمه في العالم. حينما يتعفن الضمير، تتسمم التربة وتنطفئ ألوانها، وحينما تنتصر الأنانية، تنهار جبال الجليد، وتحترق الغابات البكر، وتجف الأنهار العذبة، وتختفي ينابيع الحياة. وحين يغيب الشعور بالمسؤولية، تُغمر الطرق بالأوساخ، وتفقد الأرض بهاءها. لذلك، فإن أي استراتيجية لإنقاذ البيئة، لا بد أن تبدأ من أعماق النفس، من إصلاح البيئة القيمية. فبين التربة والضمير، ينسج خيط الحياة غير المرئي، الذي يشد الأرض والسماء، ويصنع المعنى والوجود. آن الأوان لصناع القرار في جميع البلدان أن يدركوا أن الاستثمار الحقيقي لا يكون في الاقتصاد والبنى التحتية فحسب، بل في بناء الضمير الجمعي، بوصفه حجر الأساس لكل تنمية عادلة ومستدامة.