حياة في صحبة خير جليس.

أثبتت الكثير من الأبحاث على مرّ السنين، أن قراءة الكُتب تُساهم بشكل كبير في الذكاء العام للإنسان، إذ أن الكُتب تحتوي على كنوز مخفيّة، وكلّما قرأ الشخص كلّما اكتشف المزيد من هذه الكنوز. إن الكُتب تنقلنا إلى عوالم لن نراها أبداً، وتٌعرّفنا على أشخاص لن نلتقي بهم أبداً، وتغرس فينا العواطف التي قد لا نشعر بها أبداً. فالقراءة حياة ثانية، أو ربما أكثر من حياة.. هكذا يراها الأستاذ “عباس محمود العقاد، حين يقول: “أنا لا أحبّ الكُتب لأني زاهد في الحياة، ولكني أحبّ الكُتب لآن حياةً واحدةً لا تكفيني”. واعلم أن أجمل الكُتب هي تلك التي تُثير التفكير وتعصف به، تلك التي تُثير العاطفة وتستنزل الدموع، وتُخرجك إلى صُوَرٍ وآفاقٍ بعيدة، تلك الكُتب التي تُضحِكك إلى أن تهزم وقارك.. فلا شيء يبقى في الذاكرة إن لم يؤسَّس له مكاناً في العقل والوجدان. إن روائع القول لا تنتهي، وما الكُتب الرائعة إلا تسجيلٌ لذرَب القول، وعميق القول، وشوارد الوجدان.. يقول “الماوردي” في كتابه “أدب الذّنيا والدّين”: “من تفرّد بالعِلم لم توحشهُ خُلوَة، ومن تسلّى بالكُتب لم تفُتهُ سلوَة”. وترسم المؤرّخة الأمريكية “باربرا توكمان” لوحة جميلة للكُتب، فتقول: “الكُتب حاملات للحضارة؛ فبدون الكُتب يبقى التاريخ صامتاً، والآداب غائبة، والعلوم عاجزة، والتفكير جامداً.. بدون الكُتب يكاد التطوّر الحضاري ألّا يكون، فالكُتب هي مُحرّكات التغيير، ونوافذ مُطلّة على العالم، ومنارات تُضيء بِحار الأزمنة.. الكُتب رِفاقٌ وأساتذة وسَحَرة، وبُنوك لكنوز العقول..”. ولذلك فإن كثيراً من الأعلام والنوابغ تعلّقوا بالكُتب، فالكُتب والمعرفة تشترط الانفراد بها زمناً، وقد تُعيق صاحبها عن حياة الناس؛ وتقول: الأُنس بي وحدي.. وفي ذلك يقول الزعيم الأمريكي “جون أدامز” في رسالة لصديقه: “لن تشعر بالوحدة وفي جيبك ديوان شِعر”. وهناك من يقرأ ليستمتع بالقراءة وينصرف عمّا عداها، ومن هنا جاءت كراهية المرأة لمكتبة زوجها.. يذكر د. “فاروق القاضي” أن أحد أساتذة جامعة “عين شمس” عاد من عمله إلى المنزل، ليجد زوجته الألمانية قد أخرجتْ كُتبه للشارع، وبدأتْ تُشعل فيها النار! وقد كان محظوظاً إذ لم تتمّ عملية الإحراق، بل احترق جزء يسير منها فقط. وتصوّر الأديبة “غادة السمّان” ولعها بالكتب، فتقول: “حين يُطلقونني في مكتبةٍ غنيّةٍ بكُتبها، أشعر بالانبهار والفرح، مثل طفلٍ في مخزنٍ للألعاب”! ومُحبّ الكُتب يزهو بها، ويتولّه تولّه الطفل بلُعبته في لحظات الظفر بها.. يقول الشيخ “أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري” عن بداية تعلّقه بالكُتب، ولم يطر شاربه بعد، في كتابه “شيء من التباريح”: “كانت تفرّ منّي الساعات الطوال بلا قراءة، وإنما كنتُ أُقلّب كلّ مُجلّد وأُقبّلهُ، وأمسح الكُتب وأعيد نرتيبها..”. وقد كان الشيخ “عبدالعزيز بن باز” -رحمه الله- مُحبّاً للكٌتب والقراءة.. إذ يروي أحد العاملين معه في محكمة “الخرج”، أنه كان يخرج معه في قضايا عديدة، فما أعجبه منه إلا أنه إن كان الطريق سهلاً -وكانت الطُّرق ترابية آنذاك- فإن الشيخ يطلب أن يقرأ في السيارة عليه، وإذا نزلا مٌتعبَين كان أول قوله: “أين الكتاب؟ إقرأ..”، ويدعو له. ومن المُلاحَظ أن القراءة كثيراً ما تُشغل العقل، وتُلهب الهِمّة والخيال، ويتراكم منها كُنوز تلوح على اللسان، وتُهذّب السير في الطريق، وتصنع اللمحة والبسمة والموقف، وتصوغ العقل والمنطق صياغة جديدة تجعل صاحبها فوق التفاهة والبساطة والسذاجة في كثير من جوانب تفكيره. ويحرص الكثير من الأدباء والمفكّرين والمثقّفين على اقتناء الكُتب وإيجاد مكتبة منزلية، يقضون فيها أمتع الأوقات للقراءة والبحث والكتابة، في جوّ من الهدوء والصفاء، لكنهم كثيراً ما يواجهون سؤالاً من زوّارهم، ألا وهو: هل قرأت كلّ هذه الكُتب؟ وقد أجاب على هذا السؤال الروائي “جبرا إبراهيم جبرا”، ووفّق في الإجابة بأن قال: “لقد اطّلعت ُعليها كلّها”! وقد واجه بعض كبار الكُتّاب والأدباء في حياتهم أزمة المنع من القراءة بناءً على أوامر الطبيب، وقد حدث ذلك للشيخ “حمد الجاسر” والأستاذ “أحمد أمين” والدكتور “زكي نجيب “محمود”. يقول “أحمد أمين” في الكتاب الذي يروي سيرة حياته “حياتي”: “وأدخل المكتبة لذكرى الماضي فيزيد ألمي، غذاء شهيّ وجوع مُفرط، وقد حيل بين الجائع وغذائه! هذه الآلاف من الكُتب من الأصدقاء، فاليوم أراهم ولا أسمع حديثهم، يمدّون إليّ أيديهم ولا أستطيع أن أمدّ إليهم يدي..”. وأخيراً، فإن الكاتب والمؤلّف الأمريكي الشهير “ستيفن كوفي” يُبدي ملاحظة هامة حول القراءة، فيقول في كتابه “العادات السبع”: “ما إن نترك مقاعد الدراسة، حتى يترك العديدون منّا عقولهم للتّجمد، فلا نقوم بقراءة جادّة، ولا نستكشف أيّة مواضيع جديدة، بعُمقٍ حقيقي، خارج دائرة أعمالنا.. وبدلاً من ذلك نجلس لمشاهدة التلفزيون، والتلفزيون للأسف مثل الجسد: خادمٌ جيّد وسيّدٌ سيء”!