نجران…حيث المطر كعودة الغائب.

في أقصى الجنوب السعودي، تقف نجران شامخة كشجرة عتيقة جذورها في الأرض وروحها معلّقة في السماء. ليست نجران مجرد مدينة؛ بل فضاء شعري مفتوح، تتعانق فيه الرمال مع النجوم، وتهمس فيه السماء بأسرار لا يفك رموزها إلا شاعر عاشق أو بدوي حالم. في نجران، كثير من الشعراء لم يتعلموا الشعر من الكتب؛ بل من الحياة، من صوت الجد وهو يحكي سيرة القبيلة، ومن لحن الريح وهي تعبر النخيل، ومن رائحة المطر حين يلامس تراب الوادي. هنا، القصيدة لا تُصنع، بل تنبُت، فتولد من بين الرمل والضوء، ومن عزف المطر على الأبواب الطينية، ومن هدير السكون حين يمر السحاب ولا يهطل. هناك يصعد الشاعر من الأرض إلى السماء، لا بجسده، بل بكلمته لطالما كانت السماء في شعراء نجران مرآة للروح، تراهم حين يكتبون لا يصفون النجوم فحسب بل يستنطقونها، لا ينظرون إلى المطر كظاهرة طبيعية، بل كعودة الغائب، أو كقصيدة نزلت من الأعالي. في نجران، لا تُرفع العين إلى السماء فقط بحثًا عن المطر، بل بحثًا عن معنى. هذه المدينة التي تستلقي على طرف الصحراء وتحرسها الجبال من الجهات الأربع كانت أكثر من مجرد أرض؛ كانت مهدًا للقصيدة، وفضاءً مفتوحًا للتأمل، ومحجًّا للقلوب المعلقة بين الحنين والمجهول. في الجنوب السعودي، تبدو العلاقة بين الإنسان والطبيعة علاقة أزلية، لكنها في نجران تأخذ طابعًا خاصًا. فالسماء هنا ليست خلفية فقط، بل شريك دائم في الوجدان الشعري. حين يتأمل الشاعر النجراني السماء، لا يراها كامتداد بصري فقط، بل كدفتر مفتوح لأمنياته، كصوت غائب، كنداء لا يصل. تكثر في قصائد شعراء نجران مفردات مثل: السحاب، البرق، المطر، القمر، الغيم، النجوم. هذه ليست مفردات عابرة، بل رموز مشحونة بالمشاعر والذكريات. المطر لا يعني لهم الغيث فقط، بل هو عودة الغائب، أو بداية الحنين، أو دمعة هاربة من عين السماء. يقول الشاعر حسن بن بطنين -أحد شعراء نجران- : تضارع نور الشمس بالدفء برهة وتبرئ مجتث القلوب إذا انخذل هي القدر المختار من وهب السما كغيمة صيف بالغمام إذا هطل اتخذ الشاعر هنا في التغزل بمحبوبته عناصر السماء (الشمس، والسماء، والغمام)؛ حيث جعل نور محبوبته يضارع نور الشمس في دفئه وضيائه، كما أنها في سموها وهدوء سحرها وتفردها كـ(غيمة) صيف غير ممطرة بين (غمام) ممطر. علاقة الشاعر بالطبيعة السماوية هنا ليست علاقة ملاحظة فقط، بل علاقة وجدانية؛ فهو ينهل من مفردات السماء ليُعبّر عن مشاعره ويستلهم رموزًا تعكس الصفاء، القدر، والجمال النادر. ما يجعل الصورة السماوية أعمق في شعر نجران هو ارتباطها بالحالة الوجدانية للناس. فالسحاب يوازي الهم، والنجوم تقابل الأمل، والغيم مرآة للضياع أحيانًا، والبرق ومضة ذاكرة. لا عجب أن تبدو كثير من قصائد الجنوب كأنها كُتبت في الليل، على ضوء القمر، وبصوت الريح. في نجران، لا يموت الشعر، لأن نجران نفسها قصيدة، كل وادٍ فيها بيت، وكل جبل قافية، وكل نسمة ريح موال طويل، وما دام في الجنوب قلب ينبض، فسيبقى في نجران شاعر يكتب، وطفل ينشد، وسماء تصغي.