فيلم منتصف الليل في باريس..

رحلة الحنين والبحث عن الزمن الذهبي.

ماذا لو تأخرت في ليلة ما عن العودة للمنزل إلى منتصف الليل، وفجأة وجدت نفسك بشكل أو بآخر في زمن مختلف تماماً عن زمنك، مع الشخصيات التي حلمت بها كثيراً وقرأت عنها ولها كثيراً! هذا ما حدث بالضبط مع “جيل بيندر” بطل فيلم (منتصف الليل في باريس) وهو كاتب سيناريو جيد، لكنه يعيش واقعاً بعيداً تماماً عنه، يذهب في رحلة مع خطيبته إلى مدينة أحلامه باريس، لتكشف له باريس ليس عن وجهها وحسب بل تكشف له ذاته كذلك، الفيلم عالم من الفنتازيا المحببة المندرجة تحت سؤال أبدي لطالما جال بخواطرنا جميعاً ماذا لو؟ ماذا لو استطعنا تطويع الزمن والعودة إلى الخلف، والاستمتاع بكل ما كنا نتخيله، والتماس حقيقة مع فرضية أن ما لا نعرفه أفضل بكثير مما نعرفه، والتخلص من فكرة الحنين المنقذ بالعودة إلى الماضي؟ وفي حقيقتها ليست سوى سلاحاً منتهي الصلاحية لا يمكنه أن يجعلك تشعر بتحسن، ولا يمكنه أن يحسن من الواقع، وبينما يضج عقله بهذا التساؤل يقف في منتصف الليل لتأخذه سيارة قديمة إلى باريس في عشرينات القرن الماضي وهو العصر الذهبي برأيه، لكن مع تقدمه في القصة يدرك أن كل البشر مصابين بالحنين للعصر الذي يسبق عصرهم، مما يطرح سؤالاً فلسفياً: هل الحنين للماضي هو مجرد هروب من الواقع وإعلان لإفلاس هذا الواقع؟ وكأنه كان يهرب من القرارات المؤجلة والمواقف التي تحتاج إلى مواجهة لحسمها، هارب من مشاعره وواقعه، ليجد نفسه في باريس العشرينات المدينة الحلم في والمناخ المثالي للإبداع والحرية والانطلاق، حيث الحياة لا قيود عليها، وهو كقادم من المستقبل يعرف كل ما يمكن أن يصل إليه أولئك الذين ما زالوا يحاولون في زمن سابق، يحمل “جيل” روايته التي يسخر منها الجميع ولم يلاق الدعم الكامل من أجل نشرها أو تنقيحها، ولا يشعر بالثقة حتى في الحب خاصة مع وجود فجوة اجتماعية بينه وبين خطيبته التي تنتمي لعائلة سياسية محافظة، وبطبيعتها المادية البحتة التي تتصادم مع طبيعته كمبدع وخيالي مرهف الحس. انتقال “جيل” بين الأزمنة يرمز إلى بحثه عن هويته ولقاءاته مع عظماء الأدب والفن منحته الإلهام والثقة في كتابة روايته بعيدًا عن قيود السيناريوهات التجارية. يبدأ المخرج “وودي آلن” المشاهد الافتتاحية للفيلم بعرض مناظر ساحرة لباريس، مما يُظهر شغفه ويهيئ الأجواء الرومانسية والسحرية للأحداث، كما أن الحوارات في الفيلم تتسم بخفة الدم حتى في المواضع العميقة، الفكرة الأساسية للفيلم هي فكرة العصر الذهبي، العصر الذهبي للفنون والموسيقى والكتابة وغيرها، وهي الفترات التي يجتمع فيها عدد كبير من المبدعين في ذات الوقت، وكذلك في خيالنا هي فترة أفضل بكثير مما نعيشه هي الزمن الحلم بالنسبة لنا.. لكن الحقيقة أن الزمن الجيد لنا هو الزمن الذي نعيش فيه؛ فنحن كائنات مخلوقة بشكل مؤقت لتعيش في حقب معينة، وكأننا نحمل برنامجاً خاصاً يتناسب مع الزمن الذي وضعنا فيه، ليس مجرد قصة حب، بل هو رحلة لاكتشاف الذات والإبداع، وتأمل في مفهوم الحنين إلى الماضي. يدعو الفيلم المشاهد للتفكير في فكرة أن “العصر الذهبي” ربما يكون وهماً نابعاً من عدم الرضا عن الحاضر، وأن السعادة تكمن في تقبل اللحظة الحالية. تمثل باريس في الفيلم مدينة النور والإبداع، حيث كانت ملاذًا للفنانين والكتّاب في العشرينيات، مثل همنغواي وبيكاسو وغيرهم، وودي آلن يبرز شوارعها ومعالمها الأثرية كرمز للرومانسية والجمال الخالد، مما يعكس الحنين إلى الماضي الأدبي والفني للمدينة، الانتقال السحري إلى العشرينيات عند منتصف الليل يرمز إلى أن باريس ليست مجرد مكان، بل فكرة إبداعية تعيش في الذاكرة الجماعية للفنانين، ويعتبر منتصف الليل توقيتًا ساحرًا وهو هنا بوابة سحرية بين الحاضر والماضي، كما يرمز الانتقال بين الواقع والخيال للانتقال من العالم المادي والزمن المثالي الذي يحلم به جيل، مما يعكس رغبته في الهروب من قيود حياته اليومية إلى عالم أكثر إبداعًا، أما “أدريانا” الفتاة المتحررة والجميلة والملهمة التي التقاها “جيل” عند انتقاله إلى باريس في عصرها الذهبي، هي ليست مجرد امرأة بل رمز للماضي الجميل الذي يبحث عنه، وحين تبوح له بأنها تحلم بالعيش في زمن يسبق زمنها، يفهم “جيل” أن الحنين هو حالة أبدية! والحنين موضوع مركزي في الفيلم، حين يكتشف رؤيته حول الزمن الذهبي تتضارب مع رؤية “أدريانا” وهي إنسان ذلك الزمن بينما هو _كجميعنا_ يعتقد أن الماضي كان أفضل، مما يعكس رغبة الإنسان الدائمة في الهروب من تحديات الحاضر نحو ماضٍ مثالي ومتخيل. كان “جيل” يحب المطر والسير تحت زخاته بينما كانت ترفض خطيبته ذلك وتستنكر رغبته في أن يبلل ملابسه بالسير تحت المطر، وهذه الفكرة كانت حاضرة طوال الفيلم لتشعرك بحالة الفوضى التي يعيشها البطل في حياته حيث إنه لم يستطع أن يلمس الفوارق الواضحة التي تقف حاجزاً بينه وبين المجتمع من حوله، وبينه وبين خطيبته التي يحب، وحبه للسير تحت المطر هي الجانب الرومانسي والحالم في شخصيته، بينما يراها الآخرون شيئًا سلبيًا، يشعر “جيل” بالإلهام في تلك اللحظات، مما يعكس اختلاف رؤيته للعالم عن من حوله، خاصة “إنيز” التي لا تشاركه هذا الشعور. هوس “جيل” بكتاب العصر القديم خلق من خيالاته واقعاً عجيباً يلتقي فيه مع الشخصيات الأدبية والفنية مثل همنغواي، فيتزجيرالد، دالي، وشتاين ليست مجرد لقاءات عابرة، بل تمثل محطات في رحلته لاكتشاف الذات ككاتب، فكل شخصية تقدم له درسًا أو نظرة جديدة حول الفن، الحب، والشجاعة في الكتابة، مما يساعده على تحقيق حلمه الأدبي، ولابد للكاتب أن يكون شجاعاً كما أخبره همنغواي، لذا اختار جيل البقاء في باريس المعاصرة في آخر الأمر، وقطع علاقته مع خطيبته، وهذا يرمز إلى نضجه وتقبله لواقعه، ليقرر أن يجعل من الحاضر “عصره الذهبي” الخاص به، لتكون ختامية الفيلم في مشهد لقاء يجمعه بفتاة تشاركه حبه لباريس تحت المطر وتسير معه دون أن تتردد أو تفكر في البلل، مما يشير إلى أنه وجد الروح المتوافقة معه في زمنه الحقيقي وليس في الماضي! الفيلم قدم تأملًا عميقًا في مفهوم الحنين والرغبة في الهروب من الحاضر، والرسالة التي يتركها “وودي آلن” في نهاية الفيلم هي أن العصر الذهبي الذي نبحث عنه ليس في الماضي، بل يمكن بناؤه في الحاضر إذا قررنا أن نعيش اللحظة ونقبل واقعنا، منتصف الليل في باريس هو فيلم كوميدي وفنتازيا من تأليف وإخراج وودي آن، وبطولة ماريون كوتيار، رايتشل مكادامز، وأوين ويلسون.