الفَلك بين العلوم و الشّعر..

جدّي عبدالله فلبي رحمه الله واستكشافه لفوهات الوابر النّيزكيّة.

تتعاظم معاني الدهشة لدى المرء بمجرد مراقبته للأجرام السماوية و للظواهر الكونية و الأحداث الفلكية، كما تتفاقم معاني الانبهار لديه بمجرد تمعنه بالسماء التي تحمل في جعبتها ما تحمل من الآيات و الحكم التي وضعها الخالق جل جلاله و تقدست أسماؤه و الذي قال في محكم آياته في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيراً}. العلاقة بين البشر و الكون علاقة قديمة تحيط بها العديد من الأسئلة التي تكثر كلما طال النظر في السماء، تلك التساؤلات هي ما يسعى المرء لإيجاد إجابات صائبة و شافية لها ما إن استطاع، لأن الإنسان مجبول على أن يفهم الكون من حوله منذ القدم مستعيناً بما هو متوفر لديه من وسائل وفقاً للزمن الذي يعيش فيه. العلوم الفلكية أحد أقدم علوم الطبيعة التي استولت على اهتمام البشر، و تاريخها يعود إلى العصور القديمة و التي نشأت منذ آلاف السنين. تتعدد الظواهر الفلكية و تختلف الأجرام السماوية و تتنوع التخصصات الفلكية لكنها تحصل بلا استثناء على اهتمام الكثير من الناس، من هذه الظواهر الفلكية و الأجرام المثيرة للاهتمام المجرات و المذنبات و الشهب و النيازك و الكواكب و غيرها الكثير. عدة ثقافات و حضارات و مؤرخين لعلم الفلك و الأجرام السماوية تركوا بصمة واضحة على بدايات هذا العلم الشاسع، منهم العالم الفلكي و الفيزيائي الإيطالي غاليليو غاليلي، و عالم الرياضيات و الفيزيائي اليوناني القديم أرخميدس، و العديد من العلماء المسلمين منهم على سبيل المثال عالم الفلك و الرياضيات محمد بن جابر بن سنان البتاني و الذي لقب بطليموس العرب، و عالم الفلك و اللغوي و المترجم محمد بن إبراهيم الفزاري. على صعيد علمي، ارتبط علم الفلك بعدة علوم أخرى و تخصصات هامة ساهمت في فهمه و توثيقه بوسائل عديدة لمعرفة أصول و مراحل تطور الظواهر الفلكية، منها علوم الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء. من منظور آخر، ارتبط علم الفلك أيضاً بالمواضيع الأدبية، حيث تفنن الشعراء العرب بوصف الأجرام السماوية في أبياتهم الشعرية، حيث كان للقمر و الشمس و النجوم و الكواكب حضور لا يستهان به في قصائدهم. من هذه الأمثلة ما قاله أحد أبرز شعراء العصر الأموي و هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل النميري، الملقب بالراعي النميري لكثرة وصفه للإبل، ذاكراً لفظ النيازك: ضواربُ بالأذقانِ منْ ذي شكيمة ٍ إذَا مَا هَوَى كالنَّيْزَكِ الْمُتَوَقِّدِ كما تم ذكر البدر و الشمس في أبيات بقلم شاعر الغزل العربي قيس بن الملوح حين قال: أَنيري مَكانَ البَدرِ إِن أَفَلَ البَدرُ وَقومي مَقامَ الشَمسِ ما اِستَأخَرَ الفَجرُ فَفيكِ مِنَ الشَمسِ المُنيرَةِ ضَوءُها وَلَيسَ لَها مِنكِ التَبَسُّمُ وَالثَغرُ أما الشاعرة تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية الملقبة بالخنساء، و التي أدركت الجاهلية و الإسلامية و أسلمت، فعبرت في رثاء أخيها صخر قائلة: كُنّا كَأَنجُمِ لَيلٍ وَسطَها قَمَرُ يَجلو الدُجى فَهَوى مِن بَينِنا القَمَرُ يا صَخرُ ما كُنتُ في قَومٍ أُسَرُّ بِهِم إِلّا وَإِنَّكَ بَينَ القَومِ مُشتَهِرُ الفوهات النيزكية و أنواعها الفوهات النيزكية هي الحفر و الفجوات التي تتشكل على الأرض نتيجة ارتطام و اصطدام النيازك الكبيرة الحجم و الثقيلة الوزن بها. تتفاوت سرعات و أحجام و طبيعة هذه النيازك مما يؤدي إلى تباين ملحوظ في الأثر الناتج عنها على هيئة فوهات، فتجد البعض من هذه الفوهات دائري الشكل بينما البعض الآخر يتخذ شكلاً بيضاوياً. كما يلعب وزن النيزك دوراً هاماً في التأثير الناتج عن ارتطامه بالأرض، فعلى سبيل المثال، النيازك ذات الأوزان الثقيلة جداً و التي قد تزيد عن ١٠ أطنان، قد تتمتع بسرعة عالية مما يجعل من هذه النيازك مواد متفجرة حال اصطدامها بالأرض. بالإضافة إلى ذلك، من العوامل التي تؤثر على هيئة هذه الفوهات و عمقها هي طبيعة الأرض التي ارتطمت بها النيازك، فبعض النيازك ترتطم بأرض طرية و غيرها ترتطم بأرض صلدة. النيازك التي ترتطم بأرض صلدة عادة ما تتكسر هي و التربة سوياً، خاصة إذا كانت ذات سرعة عالية نسبياً. تنقسم الفوهات النيزكية إلى نوعين أساسيين: فوهات الصدمة و فوهات الانفجار. فوهات الصدمة هي الحفر و الفجوات الصغيرة نسبياً و التي تنشأ نتيجة ارتطام النيازك الكبيرة الحجم بالأرض و التي يقل وزنها عن ١٠٠ طن. ارتطام هذه النيازك بعنف بالأرض ينتج عنه تشكل هذه الفوهات التي لا تزيد عادة عن ١٠٠ متر. يمكن العثور على هذه النيازك بشكل كامل داخل الفوهات، كما أنه من الممكن العثور عليها في بعض الأحيان على شكل كسرات ذات أحجام مختلفة و التي يتم العثور عليها مع شظايا الصخور. بينما فوهات الانفجار هي الحفر و الفجوات التي نشأت نتيجة اصطدام النيازك الكبيرة جداً بالأرض، مما يؤدي إلى انفجار هذه النيازك بدلاً من تشظيها فقط، و لهذا النوع من الفوهات تصنيفين رئيسيين: فوهات بسيطة و فوهات مركبة. ارتطام هذه النوع من النيازك يولد طاقة عالية جداً و ينتج عنه تشظي كلي و تبخر كلي أو جزئي لها، لذا نادراً ما يتم العثور على نيزك ذو وزن عال جداً في حالته المكتملة. عبدالله فلبي رحمه الله و استكشافه لفوهات الوابر النيزكية مضى جدي عبدالله فلبي رحمه الله عام ١٩٣٢ م في رحلة استكشافية على القدم و الجمل في صحراء الربع الخالي المقفرة، الشهيرة بكونها أوسع مسطح رملي متصل في العالم، المعروفة باحتوائها على مختلف أنواع الثروات المعدنية، الغامضة إلى حد كبير آنذاك. كان من ضمن أهداف عبدالله فلبي رحمه الله البحث عن مدينة إرم ذات العماد و التي ترجم اسمها إلى وابار، و هي التي ذكرها الخالق سبحانه و تعالى في سورة الفجر قائلاً: {أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ (٧)  لَّتِي لَم يُخلَق مِثلُهَا فِي البِلَادِ (٨)}، و التي سكنها قوم عاد الذين أرسل الله سبحانه و تعالى إليهم نبيه هود عليه السلام. رحلة عبدالله فلبي رحمه الله في تلك المنطقة ذات الطبيعة الوعرة و المناخ القاسي رحلة مرهقة و عويصة، لكنه بفضل من الله تمكن من إتمامها و من حصاد الثمين من الحقائق عنها على الرغم من قلة و تواضع الإمكانيات المتوفرة في ذلك الزمن. وصل عبدالله فلبي رحمه الله في الثاني من فبراير من العام ١٩٣٢ م إلى موقع فوهات الوابر. اعتقد رحمه الله في بداية الأمر بأنه وصل إلى موقع بركاني لأنه وجد في المنطقة أصنافاً متباينة من الكريات و القطع الحجرية و الزجاجية و الحديدية التي ملأت أرجاء المكان. من ضمن هذه القطع التي تناثرت في تلك المنطقة كانت القطع الزجاجية ذات اللون الأسود و التي أطلق عليها اسم زجاج وابر، و التي تكونت نتيجة الحرارة المرتفعة جداً التي أحدثها النيزك عند ارتطامه بالأرض، بالإضافة إلى الانصهار الذي حدث لصخور الحجر الرملي. رسم عبدالله فلبي رحمه الله خارطة لهذه المنطقة التي وصل إليها كما هي عادته و براعته برسم الخرائط التفصيلية، كما وصف تواجد منخفضين دائريين و ثلاث فوهات مغمورة بالرمال. كتب عبدالله فلبي رحمه الله العديد من الكتب التي سطر فيها الثمين و الجزيل من الحقائق و الاستكشافات التي شهدها خلال ترحاله، و كان بلا شك لفوهات الوابر نصيب من أحرفه حيث وصف ما عثر عليه قائلاً: “بركان في وسط الربع الخالي! وأسفل مني، بينما كنت أقف على قمة التل المنعرجة، كانت توجد الفوهات المزدوجة، التي كانت جدرانها السوداء تقف بشكل هزيل فوق الرمال الزاحفة مثل الأسوار والحصون في قلعة كبيرة. كان قطر هذه الفوهات حوالي ١٠٠ و ٥٠ ياردة على التوالي، غارقة في المنتصف ولكن نصفها اختفت بالرمال، بينما داخل جدرانها وخارجها ويوجد ما اعتبرته حممًا في دوائر كبيرة حيث يبدو أنها تدفقت من الفرن الناري. كشف مزيد من الفحص عن حقيقة وجود ثلاث حفر متشابهة قريبة، على الرغم من أن هذه كانت تعلوها تلال من الرمال ولا يمكن التعرف عليها إلا بسبب هامش الخبث الأسود حول حوافها.” أخذ عبدالله فلبي رحمه الله العينات المنوعة من هذه الكريات مثل الحديد و زجاج السيليكا، و لم يدرك بأن المنطقة التي اكتشفها ما هي إلا فوهات نيزكية إلا من بعد أن تم إرسال بعض من هذه العينات إلى المملكة المتحدة. أثبتت الفحوصات التي أجريت هناك لتلك العينات على أنها تحتوي على تركيزات معينة من عناصر مختلفة منها الحديد و النحاس، و تركيزات مرتفعة جداً من عنصر النيكل، و التي أثبتت ارتباط هذه العينات بمنطقة نيزكية. يعتقد بأن النيزك الذي تسبب بتشكل الفوهات الثلاثة في منطقة وابر قد انشطر في الجو من قبل أن يصطدم بالأرض في زاوية سطحية، مما يفسر وجود الثلاث فوهات التي اكتشفها و سجلها عبدالله فلبي رحمه الله نتيجة ارتطام هذه الشظايا الكبيرة بالأرض عقب انشطار النيزك جواً. الدراسات التي أجريت استنتجت بأن وزن النيزك الذي تسبب في تشكل فوهات الوابر لا يقل تقريباً عن ٣٥٠٠ طناً و أنه دخل الغلاف الجوي بسرعة تقارب ٢٥ ألف كيلومتر في الساعة. من الملفت للانتباه أيضاً أن الطاقة الناتجة عن ارتطام نيزك وابر بالأرض قاربت تلك التي نتجت عن القنبلة الذرية التي استهدفت هيروشيما اليابانية عام ١٩٤٥ م. بالنسبة إلى عمر الحدث الذي نتجت عنه فوهات الوابر، اعتقد في مقتبل الأمر بأنه يعود إلى آلاف السنين، بينما ذكر عبدالله فلبي رحمه الله في كتابه (الربع الخالي) عن تقارير أشارت إلي مرور كرة نارية فوق مدينة الرّياض عام ١٨٦٣ م أو ١٨٩١ م متجهة في مسار جنوبي شرقي، و هو موقع فوهات الوابر. و مما يتفق مع ما ذكره عبدالله فلبي رحمه الله هي دراسة أجريت عام ٢٠٠٤ م قامت باستخدام التأريخ عبر التألق الحراري و الذي رجح أن عمر الحدث و اصطدام نيزك وابر بالأرض حدث خلال أقل من ٢٥٠ سنة منذ ذلك الوقت. أكبر قطعة من هذا النيزك تم استرجاعها عام ١٩٦٦ م و هي الآن معروضة في بهو المتحف الوطني في العاصمة السعودية الرياض. عشق العلوم الفلكية و الشغف بالظواهر الكونية ما هي إلا طباع نابعة من فضول بني البشر الأبدي بالتعمق في أسرار هذا الكون و استكشاف أسراره الثمينة، لأن الإنسان ليس باستطاعته فهم ذاته و نفسه من غير إلمامه بما يحيط به و بعالمه من آيات و علامات عظيمة لا يدرك سوى القليل عنها لكنه كاف ليشعره بضخامة هذا الكون و جليل شأنه. هي ميزات تتوارثها الأجيال، و في الإرث التاريخي و العلمي الثري الذي تركه جدي عبدالله فلبي رحمه الله لي و لأسرته كافة و محبيه مثال صادق على ذلك. ختاماً، قال الله سبحانه و تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.