
يُعد الفنان الرائد الراحل إسماعيل الشيخلي أحد الأعمدة المهمة التي ارتكزت عليها الحركة التشكيلية في العراق، منذ منتصف العقد الأربعيني حتى يوم رحيله في 24 يناير 2004. فقد كان له حضور فاعل وبارز في إنشاء وبلورة المشهد التشكيلي، وعرف بوصفه فنانًا ملتزمًا بقضايا مجتمعه، حريصًا على استمرار وديمومة مسيرة الفن التشكيلي المعاصر في العراق، وإثبات وجوده الفعلي في المشاركات الدولية المهمة. كان الشيخلي معلمًا خرّجت على يديه نخبة كبيرة من الفنانين، وأستاذًا جامعيًا مثقفًا، ومديرًا عامًا لدائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة والإعلام لأكثر من عشر سنوات متواصلة. وقد كانت هذه الدائرة المحرّك الأهم في تنمية مسيرة الفن التشكيلي عراقيًا وعربيًا وعالميًا، حيث قدم من خلال منصبه عطاءً ملموسًا واحتضانًا كبيرًا للمبدعين العراقيين، بل كان شاهدًا عيانًا، وأمينًا، ومساهمًا في مخاض وولادة وبناء الفن العراقي المعاصر منذ بداياته، وقد بدأ هذا الإسهام منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره. وُلد إسماعيل الشيخلي عام 1924 في منطقة باب الشيخ، وكان من أوائل الذين اختارتهم “متوسطة الرصافة” للالتحاق بمعهد الفنون الجميلة عام 1939، فرع الرسم، وتخرّج في أول دورة للمعهد عام 1945. بعدها مارس تدريس الرسم في “الإعدادية المركزية”، ثم عُيّن مساعدًا لأستاذه الفنان فائق حسن في معهد الفنون الجميلة عام 1947. وفي عام 1948، أُرسل في بعثة علمية إلى فرنسا لدراسة الرسم في “المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة” (البوزار)، حيث تخرّج فيها عام 1952 مع الفنان جون دوبا، كما درس دراسة حرة في “أكاديمية جوليان” تحت إشراف الفنان أندريه لوت. عند عودته إلى بغداد عام 1952، واصل تدريس الرسم في معهد الفنون الجميلة، ثم انتقل مع زملائه إلى أكاديمية الفنون الجميلة، ومنح لقب “أستاذ فن”، ليتولى بعدها رئاسة قسم الفنون التشكيلية في الأكاديمية. إلى جانب ذلك، كان ناشطًا في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين منذ تأسيسها، وعضوًا في نقابة الفنانين العراقيين، كما اختير خبيرًا للشؤون العربية من قبل الهيئة التنفيذية لاتحاد الفنانين العالميين بين عامي 1973 و1976، ثم انتُخب رئيسًا للرابطة الدولية للفنون التشكيلية التابعة لليونسكو للفترة من 1986 إلى 1990، ليُمنح بعدها صفة “رئيس شرف” للرابطة. وكان عضوًا في لجنة التحكيم الدولية لمهرجان “كان سورمير”، وشارك أستاذه فائق حسن في تأسيس “جماعة الرواد” التي شكّلت علامة مميزة في مسيرة التشكيل العراقي، وأسهم في جميع معارضها السنوية، إلى جانب مشاركاته الفاعلة في جميع المعارض الوطنية والدولية، بما في ذلك البينالات العالمية. لم يكن غريبًا أن تتأثر أعمال الشيخلي الأولى بأعمال أستاذه فائق حسن، خاصة بعد عودته من باريس ومزاملته له في جماعة الرواد، سواء من الناحية التكنيكية أو في استلهام المواضيع الشعبية والريفية، وتفهمه لشاعرية الألوان. وقد أضاف إلى تلك التجارب لمسة خاصة تطورت في معالجة المواضيع من الناحية الجمالية، فبرزت لديه بساطة في التكوين، واختزال في الألوان، وشخصية فنية متميزة. كان محبًا للطبيعة العراقية، مغرمًا بالقرويات الموشحات بعباءاتهن، وصارت النخيل والنساء في أعماله الأخيرة تتجمع وتتفرق بتكوينات لونية تتراقص فوق مساحة لون رئيس يشكل خلفية اللوحة، يختاره بحساسية فنية قريبة من الرمز المجرد، سواء للظلال أو الخضرة أو التراب المحروق بأشعة الشمس. لم تعد المزارات أو النخيل والنساء في لوحاته سوى مجاميع لونية تمتد وتتقاطع بتكوينات تشكل مضمون الموضوع، فليس عبثًا أن يضع الشيخلي ألوانه بهذا التناغم المتوازي؛ إنه يضع حالاته عبر وعيه باللون وبالشخص، ثم بتجريد كليهما، مع الحفاظ على السمة الوطنية. إن أعماله لا تنتمي إلى العفوية بقدر ما تمتد في عمق الحس الشعبي والحياة الاجتماعية: النساء، العباءات، النخيل، الفضاءات، المياه.. كلها علاقات متينة تتصاعد عبر محور داخلي في “الزيارة”، أو “الهور”، أو “السوق”، أو بمعنى أشمل في “القرية”. للشيخلي خصوصيته التي استمدها من واقع البيئة العراقية ومناخاتها؛ فهو يستلهم منها النساء، النخيل، البيوتات، الأزقة القديمة، بعيدًا عن التقليدية والجمود، متحررًا وفق رؤيته الفنية وأسلوبه المتميز. وهو في هذا الاستلهام أو الاختيار إنما يوثّق حياة طافحة بالزمان المتحرّك والمكان المترع بالزهو والبهاء، من خلال موضوعات بصرية لصيقة بالحياة الريفية تارة، وعمارة المدينة تارة أخرى، مما جعل المتلقين يلتفون حول أعماله بمحبة وتقدير. لجأ الشيخلي إلى مركزية اللوحة، أفقيًا أو عموديًا، ثم وزّع كتلته اللونية أو شخوصه في مساحات الأرض أو الماء أو السماء، متدرجًا بالألوان من حرارتها الشعبية إلى خدمتها للموضوع، حتى استلّ لنفسه أسلوبية ميّزته دون سواه، وأكدت خصوصية “عراقيته” الفنية. استغرقته استدارات الوجوه في الخمسينات، ثم العباءات والعيون الواسعة، ثم راح يُجرد التفاصيل، فصرنا نحس من خلف المرأة عباءةً وضربةً ولونًا، ومن خلف العقال والكوفية رجلاً، لكن بملامح خاصة لا تفصح عن تفاصيل دقيقة.. إنها العلاقة بين الشخص والكتلة. وبعد إحالته إلى التقاعد، تفرغ الشيخلي كليًا للرسم، فأنتج عشرات الأعمال التي أقام بها معارض شخصية وشارك بها في فعاليات عديدة، لتصبح لاحقًا في حوزة مقتنيها وعشاق فنه.