السعودية تفرض الواقع… ولا يُفرض عليها.

إرث السيادة و بناء الدولة منذ تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود عام 1932، وهي تُكرس مفهومًا فريدًا في السياسة الدولية: القدرة على تشكيل الواقع بيدها، ورفض الانصياع لإملاءات الخارج. هذا النهج لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج رؤية تاريخية تعكس عمق الهوية العربية و الإسلامية، وإصرارًا على تحويل التحديات إلى فرص. فالسعودية، برمالها الذهبية و قلوب أبنائها، لم تكن مجرد مساحة جغرافية، بل مشروعًا وطنيًا حوَّل الصحراء إلى دولة عصرية، و حافظ على سيادتها في عالم تتقاذفه الأطماع. عندما بدأ الملك عبدالعزيز حملاته لتوحيد الجزيرة العربية في مطلع القرن العشرين، كانت المنطقة تعيش حالة من التشرذم القبلي و الضعف العثماني. لم تكن القبائل تثق ببعضها، و التدخلات الخارجية (البريطانية و العثمانية) تحاول فرض هيمنتها. لكن الملك عبدالعزيز، بذكاء القائد، استخدم السياسة و الدبلوماسية قبل السيف، فوحَّد المناطق تحت مظلة “دولة السعودية الثالثة”، مُرسيًا قاعدة صلبة: “الاستقلال قرار داخلي، و ليس هبة خارجية. في عام 1927، وقَّع معاهدة جدة مع بريطانيا، التي اعترفت بسيادة السعودية الكاملة دون شروط، و هو إنجاز نادر في حقبة كانت فيها الدول العربية تُقسَّم بموجب اتفاقيات سايكس بيكو. هنا، فرضت السعودية نفسها ككيانٍ لا يُستهان به، رغم حداثة عهده. و في ثلاثينيات القرن الماضي، اكتُشف النفط في أراضي السعودية، لتبدأ مرحلة جديدة من التحديات. كانت شركات النفط الأجنبية (مثل “أرامكو” الأمريكية) تتحكم بالثروة، لكن القيادة السعودية أدركت أن السيطرة على الموارد هي أساس السيادة. في السبعينيات، قادت المملكة مع دول أوبك حظر النفط عام 1973 ردًا على دعم الغرب لإسرائيل، ما أحدث صدمة في الاقتصاد العالمي و أثبت أن السعودية ليست “مُستهلكًا للقرار الدولي”، بل صانعةً له. و في عام 1988، اكتملت سلسلة التحرر الاقتصادي بتحويل “أرامكو” إلى شركة سعودية بالكامل، لتصبح اليوم أكبر شركة طاقة في العالم، و رمزًا للاقتصاد الذي يُدار بعقول محلية. لم تكن السعودية يومًا تابعًا في الساحة الدولية، بل لاعبًا رئيسيًا يُوازن بين القوى. خلال الحرب الباردة، رفضت الانحياز الكامل لأي معسكر، و حافظت على علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة دون إغفال الشراكة مع الصين و روسيا. و في العقد الماضي، تصدَّرت المملكة تحالفًا عربيًا لمواجهة التمدد الإيراني في اليمن عام 2015، دفاعًا عن أمنها و أمن الجوار. كما أن قيادة السعودية لمبادرات مثل “قمة الرياض العربية الإسلامية ضد الإرهاب” (2017) واستضافتها لقمة مجموعة العشرين (2020) تؤكد أنها تفرض أجندتها على الطاولة الدولية بدلًا من انتظار ردود الفعل. مع انطلاق رؤية 2030 عام 2016، بقيادة الأمير محمد بن سلمان، دخلت السعودية مرحلةً جديدةً من فرض الواقع الاقتصادي و الاجتماعي. المشاريع العملاقة مثل “نيوم” و”ذا لاين” لم تكن ردًا على تقلبات أسعار النفط، بل “خطة استباقية” لبناء اقتصادٍ متنوع. النتائج ملموسة: ارتفاع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل من 19% إلى 36% بين 2016 و2023، و تصدر المملكة لمؤشرات النمو السياحي العالمي. هنا، لا تنتظر السعودية إصلاحات مفروضة من منظمات دولية، بل تصنع نموذجها الخاص، الذي يجمع بين الحداثة و الأصالة. عندما أعلنت السعودية عام 2018 السماح للمرأة بقيادة السيارة، أو عندما افتتحت دور السينما و أطلقت موسم الرياض، لم تكن تلك خطوات استجابة لضغوط خارجية، بل تطورًا طبيعيًا لرؤية داخلية. الإصلاحات الاجتماعية، مثل نظام الأحوال الشخصية الجديد، تُظهر أن التغيير يأتي من الداخل، وفقًا لاحتياجات المجتمع و قيمه. حتى في ملف حقوق الإنسان، أنشأت السعودية هيئات مستقلة مثل “هيئة حقوق الإنسان” لتكون الحَكَم، لا المنظمات الأجنبية. السعودية، التي حوَّلت الصحراء إلى دولة عظمى، ومركزًا عالميًا للطاقة و الاستثمار، تثبت يوميًا أن السيادة ليست شعارًا، بل فعلًا. في عالم يعج بالتحديات، تبقى المملكة قلعة صامدة، ترفض أن تكون بيدقاً على مربع شطرنج الآخرين، و تختط طريقها بمفردها. كما قال الملك سلمان: “نحن أبناء هذا الوطن، نحميه كما حماه أجدادنا”. فالواقع الذي تفرضه السعودية اليوم ليس إلا امتدادًا لإرثٍ من الكفاح، و وعدًا بمستقبلٍ يُكتب بأيدٍ سعودية. الكلمة الأخيرة السعودية لم تُخلق قوية، بل صنعت قوتها بإرادة أبنائها. وهي اليوم، برؤية 2030، تكرر نفس القصة: لا تنتظر المستقبل، بل تصنعه.