في غرفة أمي.. التي تتّسع بها الأرض.

صغير شالتني دروب ومسافات شمسٍ وراسي في غطاها تظلّه أدخل غرفتها، وأشعر أن الأرض بكاملها تتّسع لي. ماذا أفعل يا أمي، وأنا أراكِ الآن تضعفين أمامي؟ ما يطمئنني عليكِ -وعلى نفسي- أن كلمات الإيمان لا تزال تلهج بها شفتاكِ، وأن الرضا يطلّ من همسكِ الخافت، إن تعثرت الكلمات. ما زلتِ بخير، وما زلتِ شاكرةً قانعة. وهكذا هي الحياة: نزهر كالورود، ثم يأتي الخريف بشحوبه. لكنها العاطفة، يا أعزّ الناس، العاطفة التي تدفعني لأن أدخل عليكِ مبتسمًا، وأنا ممتلئ بالوجع، ليس وجع الجسد، فذاك يزول بمسكّن أو دواء، بل وجع الحياة حين تُثقلنا بتفاصيلها، ونحن نكابر. في أنفاسكِ الطيّبة، في نظراتكِ إليّ، شيء لا يُشبه إلاكِ. ما زلتِ – رغم الإعياء – تقرئين ملامحي، وتفهمين ما يدور داخلي، فتنسين تعبكِ، وتُجودين بالدعاء. ألا يكفي ذلك لأفهم معنى “أم”... ومعنى “رضا”... ومعنى “نقاء”؟ أحاول أن أبدو قويًّا، أن أحزم ضلوعي – كما يفعل الرجال الأشدّاء– حين أراكِ على السرير، لا تقوين على الحركة. أُظهر الشجاعة، وقلبي يتحرّق في صمت. يقولون لي: “أنت عاطفيّ أكثر مما ينبغي”، لكن بالله عليكم، ما الحياة إن لم تكن عاطفة؟ عاطفة تجاه من نحب، من نكبر في ظلّهم دون أن نشعر. كيف نعيش بلا قلب ينبض للناس؟ حتى الشجر والحجر كتب الأدباء عن حنينهم له، حين عبروه يومًا، وشعروا أنه تأثّر بمرورهم. كنت أخرج أحيانًا من غرفتها، ودموعي تختلج في صدري، ثم تنهمر حين لا يراني أحد. أنا قريب من أمي... من صاجها وسعفها الذي تقلّب به فطير الصباح، من غطاء رأسها الأسود الذي كانت تظلّلني به عن حرارة الشمس، وتحفظ لي صغيرًا بعض النقود، تربطها في طرف ذلك الغطاء نسميه (بخنق). أنا قريب منها، لأنني من عروقها. وأعرف تمامًا معنى أن تكون الأم هي الحياة. من وخزته شوكة، وأقضّت مضجعه الحُمّى، وغابت عنه الدنيا كلّها، لم يُبصر إلا عينًا واحدة تسهر حتى يزول البأس. الحديث عن الأم... لا يشبهه شيء، إلا الأم نفسها، بحنانها، ودفئها، وقلبها الذي تفيض منه المشاعر بلا حدود. ناديني: خالد، خويلد... ناديني كما اعتدتِ، بأي اسم شئتِ؛ المهم أن يظل صوتكِ العذب يرنّ في قلبي. حفظَ الله أمهاتنا، وأمدّهن بالصحة والعافية، وجعلنا من البارّين بهن، المحفوظين بدعائهن.