حَلاب السراب. 

 في الصباح الباكر يتثاءب “ معدي “ بعد نوم متقطع ، ينثر على وجهه الماء بتعب ، يفرك عينيه من ألم الحساسية، لقد بدا منذ فترة شاحب الوجه نحيف الجسد.. وهو لا يشتكي ، لقد ذهب لأطباء كُثر وكل مرة يعود بكيس مملوء بالأدوية ، يرتدي ثوبه الملون البالي وشماغه الأحمر الذي أخرج فتاله، بينما زوجته “كبيرة “ تسرد له طلبات المطبخ ، وهو يتصفح جدول يومه المتشابه ، من البيت إلى المدرسة إلى عمله، يتذمر من طلباتها التي لا تنتهي : - كبيرة! متى تودعيني بلا طلبات ؟فترد عليه بتهكم : - إذا رجعت إلى البيت لا تسأل عن الغداء ! - المشكى على الله ، يصيح على أطفاله ؛ بأن يسارعوا في إرتداء ملابسهم : - هيا يا أولاد اسرعوا بدأ الطابور ..تلحقه كبيرة لدى الباب : - معدي لاتنسى تجيب لي دواء السكر والضغط .. يضع أصبعه على أنفه : الله المستعان ، يذهب إلى جهته يحمل أطفاله في سيارته القديمة إلى مدرستهم، يتثاءبون وينعسون بينما هو يسرد لهم النصائح الصباحية : لا يشتكي منكم أحدٌ وانتبهوا لشرح المعلمين وحافظوا على أقلامكم وكراساتكم.. يتذكر همومه فيصمت، على كاهله يحمل مسؤوليات وديوناً، يفتح الراديو على قرآن الصباح لينشرح صدره الممتلئ بالوجع، يتنهد بألم ، ومع كل ذلك يتفاءل بيوم مختلف ، الله يفرّجها من عنده ..يوصلهم إلى باب المدرسة ، وهو يدعو لهم بالصلاح والتوفيق ، يهوجس في طريقه بحسابات لا تنتهي “كم عليه من التزامات ؟وكم بقي من العمر ؟ ومتى تنتهي ديونه؟”يجمع ويقسم ويطرح ويضرب .. والمُحصّلة ؛ سلف ودَين يتراكم ، يحدث نفسه: -”من يبدأ حياته بالدَين سيموت وهو مديون “. يصل مقر عمله يلقي على المدير السلام بفتور ،أطفاله الخمسة يكبرون وتزيد طلباتهم ، يعيش طول الشهر على السلف ، الكل يطلبه في نهاية كل شهر : بيته وسيارته وعائلته والدائنون، يحاول معدي الصمود ويتظاهر بالارتياح ، يستمع لمزاح الزملاء في مقر عمله ؛ بأنه يملك رصيداً كبيراً في حسابه وأنه يتظاهر بالفقر، يتمنى ويبتسم لهم بتعجب ،ويتوعدهم مازحاً ؛ بأنه سيقاضيهم على هذه التهمة المفتراة! يعود من عمله منهكاً يحمل أطفاله وطلبات زوجته كبيرة ، يجلسون للغداء “ إدام وخبز “يحمد الله على النعمة والعافية، ويضع رأسه على المخدة لأخذ غفوة قبيل العصر ، بينما زوجته كبيرة منهمكة في الغسيل والنظافة ..تطلبه أن يأتي لها بشغالة تساعدها في شؤون المنزل ، وهو يكتفي بالسخرية منها :  -إذا بعت القصور والمزارع والأراضي فأبشري بالخدم والحشم .. يقولها بأسى: -وكأنكِ لا تعرفين الحال ! ثم يعقب : - خلينا نمد لحافنا على قد رجولنا إلى أن يأخذ الله وداعته .