ديوان (كمخبولة أُطلقت من جماح) للشاعرة الجزائرية سميّة محنّش ..

عندما تتدفق المنابع القرآنية في النص الشعري .

بعد ديواني (مسقط قلبي) 2013 و(ذلك الكنز المكنون) 2017 تطل علينا الشاعرة الجزائرية سمية محنَّش بديوانها الجديد (كمخبولةٍ أُطلقت من جماح) الصادر عن دار خَيَال للنشر والترجمة بالجزائر في مائة صفحة ونيف، مشتملا على ثلاث عشرة قصيدة من القصائد التناظرية وقصائد التفعيلة. وإذا كان ديواناها السابقان ضما قصائد منوعة بين الوطنية والعاطفية والعامة، فقد جاء هذا الديوان احتجاجا على المجازر الدموية التي نشهدها منذ مطلع القرن الجديد، والتي بلغت ذروتها في تنكيل العدو الصهيوني بغزة أرضا وبشرا في ثلاث السنوات الأخيرة.. لم تطل بنا الحيرة والترقب حتى نعرف ما تقصد سمية بمخبولتها التي أطلقت من عقالها، إذ أفصحت عنها في التنويه الذي تلا إهداءها الديوان إلى شهداء غزة، وشهداء البشرية جمعاء، حين قالت: “وكأن العنف والجبروت كانا مُقيدين، ثم أُطلق سراحهما فجأةً، وكأنَّ الحرب الدائرة بشراهة متعطش لا يفرق بين دماء أبرياء ودماء آثمين، مخبولة أُطلقت من جِماح”! ولم تبعد شاعرتنا عن رأي الشعراء العرب في الحرب وأهوالها ووحشيتها بدءا من زهير بن أبي سلمى الذي وصف فعلها بعرك الرحى، وأبي قيس بن الأسلت الذي نعتها بـ (غول ذات أوجاع). الشاعرة سمية تعمل في مجال المحاماة وتستعد لمناقشة رسالة الدكتوراة، ويبدو أن هذا الانشغال بالعمل والدراسة وراء تباعد الفترات بين ديوان وآخر، وقلة ظهورها في المحافل الشعرية، على الرغم من تمكنها من الشعر الرصين، إذ حصلت على جائزة رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب في الشعر 2012، والجائزة الوطنية للإبداع النسوي بقسنطينة، والجائزة العربية لمهرجان الشاطئ الشعري في سكيكدة، وجائزة الكثيب الذهبي الوطنية في الجزائر. وقد حلت ضيفة على مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة في عام 2018. كل قصائد المجموعة يتصدرها مدخل مختار يناسب موضوعها؛ على هيئة قرآنية أو بيت شعري أو قول أديب عالمي. ولنقف على أولى القصائد المعنونة بـ (قصة طويلة) وقد صدرتها ببيت الإمام الشافعي: سهام الليل لا تخطئ ولكن لها أمد وللأمد انقضاء تقول في بداية قصتها: إلهي .... سأروي لك الآن قِصَّة حزني وبثي إليك توارتْتُها من قديمِ الزَّمانِ فمندُ وعيْتُ أرى جَدَّتي فوقَ سجادةٍ للدُّعاءِ.. تصلي وتبكي.. وتدعُوكَ في آخرِ الشَّوطِ.. أن تقهر الظالمين.. وأن تنصُرَ المؤِمنين وتواصل سرد قصتها، وهي أن جدتها طوال الحروب المتتالية كانت تصلي، وتدعو ربها أكثر مما تصلي أن يقهر الظالمين وينصر المؤمنين، حتى إذا ما رحلت جدتها واصلت - هي - مسيرة جدتها فأخذت تصلي وتدعو كما كانت جدتها تفعل: وما عاد لي جَدَّة كي تُصَلِّي وتدعوك أن توقف الإبتلاء ولا عندي اليومَ أُم لتبكي... ويشفق من دمعها الإعتداء لقد صرتُ وحْدِي.... أُصَلِّي وأبكي وأروي لك الآن.. قصَّةَ حُزْنِي وبَنِّي إِلَيكَ.. بأن تستجيب دعاء طويلا إليك.. وفي قصيدة (صلاة أخيرة) التي صدرتها بالآية الكريمة (إذ جاءوكم مِن فَوْقَكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وبلغتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) تستهلها بمناجاته سبحانه وتعالى: إلهي ... وإِذْ أنت قصرتَ عُمر الزمان أطلْــتَ بعمــر الشــدائد فينـا ثمانيــن حــولا يعــمُّ الشَّـــقاء تــمُــرُّ الســعادة لا تبتغيـنــا لقد جاءنا الذل من كل صوب ومن فوق كل احتمالِ ابتلينا إلى أن تقول واصفة الوضع العام للناس تحت وقع الحرب: كأنــا يتامــى... فَقَــدْنا أبــانــا وكافِلُنا البطشُ أَنَّى غُشِيئا وحَشْدٌ مِنَ الخـوفِ أسفَلَ مِنَّــا يقض المضاجع والنائمينا وزاعَتْ بصائِرُنا حيثُ رَاغَتْ وكادت حناجــرنا أن تبينا ويتضح ليس في هذه القصيدة فحسب؛ بل في الديوان كله تأثر الشاعرة بالقرآن الكريم، إذ تنساب المفردات القرآنية، وتنثال الإشارات للذكر الحكيم في ثنايا نصوصها بكل يسر. أما قصيدة (أولاد القيامة) فتستمدها من سيرة الأسير الفلسطيني محمد زايد، الذي أطلق سراحه إثر تبادل للأسرى مع مطلع 2025. وهي أحدث قصائد الديوان إذ كتبتها الشاعرة في فاتح أغسطس 2025. يتذكر الأسير ما مر عليه في المعتقل، فتعبر الشاعرة بلسان حاله: حضنْتُ حقيبةَ الأَشجانِ عُمْرا فصــرْنا مثــلَ دَفَّاتِ الكتـابِ تشــتتـنــي فَأَجْمَعُــها بدمعــي وأَسْقيها الحنينَ مِنَ الرُّضابِ أنا المخطوفُ مِنْ ليلاي غرًّا أما زالت على عهدِ الإياب؟؟ وينطلق بعد تذكره ليلاه متسائلا عن حالها، ثم يعتذر لها عن انقطاعه عنها: ولكنَّ القيودَ فرشْنَ دربِي وكَبَّلْنَ المشيئةَ للرِّقابِ وأشواك المجرة طوَّقتْني وألقتني ببئرٍ للصـعاب ثم يتحدث عما كان حلما فأصبح حقيقة، وهو العودة لبيته وأهله: سأَرجِعُ ذات حُلْم، قلتُ حَتْما ومَرَّ العمرُ أشْرِطَةَ انسحابِ وعدنــا للديــار.. لنــا يقيــنٌ بأَنَّــا منْ ســلالاتِ السَّــحابِ ويبدأ مقطع آخر من القصيدة يخاطب الأسير فيه ابنه الذي تركه رضيعا، فيقول: مضى عشرون بردا يا صغيري جنينا إذ تركتك باحتسابي يقولون الصــغيــر غَــدَا كبيــرًا وذاكَ الشبلُ مِنْ أَسَدٍ بِغَابِ وتمضي القصيدة إلى نهايتها على لسان الأسير، متحدثا لأمه وقد وقف على قبرها: ألا ردي التحية واسـمعيني أنا لا أنت مَن تحت التراب ألا هبي بمسكك واغمريني لأحيا فيك مكتمل النصـاب وغير خاف ما في البيت الأخير من تناص مع عمرو بن كلثوم، الذي ما إن يُذكر حتى تذكر معلقته التي تتفجر غضبا. وفي قصيدة بعنوان (المأساة) كتبتْها الشاعرة في عيد الأضحى سنة 2024 تتساءل كيف نستمتع بالعيد في الوقت الذي يشقى إخوتنا في جحيم المعارك. تقول في مطلعها: لم أكترث والعيد لا يعنيني مُحِق الزمانُ وأحفيتْ سكيني وتنعي على المتخاذلين عن الدفاع عن وطنهم بحجة أن للبيت ربًّا يحميه: وتحاججوا إذ قال فيهم قائل: للبيت ربٌّ في الحمى يحميني شــتَّان بين مُدَجج بســلاحـه ومَؤجــج بالوحــي والتبيـيــن سبعون عاما ثم زادوا سبعة والذئــب يلبس هيئـة المسكين وفي قصيدة (لو) تواصل الشاعرة انتقادها للمتخاذلين، وتقول إن الدفاع عن الوطن أمر بدهي: لو أننا حجر.. للاذ منافحا من نفسهِ قبل الأكف العالية لو أننا شجر لسَجَّرَ نفسـهُ من حولهمْ وأباد ظلمَ الطَّاغية لكننا عرب ويأكل بعضنا بعضــا ونؤكل خفية وعلانية وفي القصيدة التي حمل الديوان عنوانها (كمخبولة أطلقت من جماح) تصف ما تسببت فيه الحرب من طمس لمعالم الحياة بعد أن كان ثَمة حياة طبعية مقبولة، فهناك بيوت وأحياء وخيام وأسواق، وثمة بحر وعشاق وسمار، أما ألآن فالوضع كما يلي: تقومُ القيامةُ في كل يــوم وتـنــشــب أظــفــارها بالرمــاح مخــلـفــة أثــر الأولــيــن ركاما من الجو في الأرض ساح وليستْ تُرِيح ولا تَسْتَرِيح كَمَخْـبُــولَةٍ أُطْلِقَــتْ مِــن جِمــاح وأنهي المقال ببيتين من قصيدة بعنوان (الهلوسات) تتحسر فيهما شاعرتنا على تفوق الصوت على الفعل، في الوقت الذي لا يجدي الكلام شيئا: خَجِلَ الكلامُ من الكلامِ وجرحكم باد على خد الدموع الغائرة ويَظَلُّ يَجْلِدُنَا الضَّـميرُ فنســتحي من أول الإذلال حتى آخره وتعيدنا إلى سيد التفاخر عمرو بن كلثوم الذي لم يكن أرفع من صوته، إذ تقول: بمن التفاخر يا ابن كلثوم بمن؟ كل القصائد في التفاخر فاجرة