الموت ليس مجرد توقف نبض، بل لحظة تنكسر فيها استمرارية المعنى. لحظة يصبح فيها الزمن ذكرى، والحياة سؤالًا، والإنسان أثرًا أكثر منه جسدًا. الفلسفة تنظر إلى الموت بوصفه الحقيقة الوحيدة الثابتة، والباب الذي يقف خلفه سؤال الوجود: ماذا يبقى منا؟ ومن يعود ليتذكرنا، لا نحن؟ أما الفقد فهو الوجه الإنساني للموت؛ هو ما يحدث للأحياء بعد أن يرحل أحدهم، الفراغ الذي يخلّفه، وارتباك البيت والمكان والذاكرة في غيابه. الأدب كان دائمًا المكان الذي يتحدث فيه الموت. ليس باعتباره نهاية الحياة فقط، بل باعتباره بداية وعي جديد؛ وعي الأحياء بالفقد، أو وعي الميت بلحظته الأخيرة، أو وعي العالم بأن شخصًا ما اختفى. الأدباء كتبوا عن الموت كي لا يكون صامتًا، وعن الفقد كي لا يتحول إلى عادة. في القصص، الميت يرى، والأحياء يتحسّسون الفراغ، والذاكرة تحاول أن تقاوم النسيان بالكلمات. وفي أدبنا السعودي وجدت أن الفقد والموت لم يبقيا مجرد فكرة، بل تحولا إلى حكايات تجسد الألم في ثلاث مجموعات قصصية قرأتها مؤخراً. ولامست شيئاً عميقاً في داخلي. ففي المجموعة القصصية للعلاقات تاريخ انتهاء للكاتب يحيى أحمد تحديداً في قصة “شعور أن تكون ميتًا” يقدم تساؤلات مثل ماذا يرى أو يفهم الميت؟ كيف يكون الإدراك؟ كيف هو العالم الذي كنا جزء منه؟ حيث يقدم الموت كتجربة وعي لا كغياب. يبدأ السرد من لحظة الاحتضار، حيث يشعر الميت بانسحاب مشاعره تدريجيًا، لكنه يبقى قادرًا على رؤية من حوله، يستمع إلى بكائهم، ويرى من كان يعاديه في الحياة يقف حزينًا عند جسده. هنا تكون مفارقة موجعة: الميت يعاتب، يراجع العلاقات، يدرك الحقيقة، بينما العالم لا يسمعه. جسد الكاتب الموت كنافذة أخيرة يرى منها الإنسان حياته وحقيقة الآخرين، قبل أن ينطفئ وعيه مع نزوله القبر. الموت ليس الصمت كما نفهم ونحن أحياء، بل اللحظة التي تنكشف فيها الحقيقة بوضوح مؤلم الانه وببساطة أنتقل فيها الميت إلى وعي مختلف ورؤية مجردة من المشاعر. وفي المجموعة القصيصة وجوه رمادية للكاتبة الدكتورة نوال السويلم تحديداً قصة” واجب طويل الأجل” يتحول الموت من تجربة فردية إلى حدث اجتماعي. الناس لا يحزنون فحسب، بل يؤدون واجب العزاء كطقس ضروري، ثم يبدأون تدريجيًا في إزالة أثر الميت: ملابسه، سريره، رائحته، وجوده. وكأن الموت لا يكتمل إلا حين يُمحى الميت من الأشياء والمكان. يتحول بذلك الميت إلى ذكرى بعد أن كان واقعاً ملموساً وحكاية فرد غائب يُحكى عنه بين حين وآخر. العنوان يحمل مفارقة دقيقة؛ فالعزاء ليس واجبًا طويل الأجل كما يبدو، بل الأطول هو الغياب، أما الحزن فيتراجع رويدًا أمام إيقاع الحياة. القصة تكشف هشاشة الذاكرة البشرية وسرعة الناس في العودة إلى عاداتهم، حتى بعد لحظة بكاء صادقة. هنا تسأل نفسك هل الحزن حقيقة أو زيف؟، وعندما تستمر بنا الحياة وتعود بنا إلى ما قبل الفقد هل نكون بذلك قد نسينا فعلاَ أحبابنا الذين غابوا؟ أم أن الحزن هنا أتخذ شكلاً أخر يرافقنا؟ وفي مجموعة عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي للكاتبة رجاء البوعلي تأتي قصة “عيني على النعش” لتصوّر الموت من داخل البيت بعد عودة العائلة من الدفن. يجتمع الأبناء في المكان نفسه الذي نشأوا فيه، لكن البيت يبدو غريبًا، وكأن ركنه الأساسي قد اختفى. الغائب يصبح مركز الذكرى؛ يعود الزمن إلى الوراء، لذكريات الطفولة لم ينتبهوا إلى جمالها إلا حينما أصبحت ذكرى هنا يتجلى الإحساس بالغربة بعد الموت والفقد، تظهر تفاصيل صغيرة لم ينتبهوا لمعناها حين كان موجودًا: نبرة صوته، وجوده على المائدة، خطواته في الممر، حديثة معهم، كيف كان يضحك. الكاتبة هنا تمنح الفقد شكلًا من الغربة؛ غربة الأحياء في مكان لم يعد كما كان، وغربة الروح أمام ماضٍ لا يمكن استعادته، ومستقبل لا يُعرف كيف يُبنى بدون من فقدناهم. تضع القارئ في تساؤلات حول اللحظات التي لم نعشها وتحولت إلى ذكريات بعد فوات الأوان، لما أجلنها؟ لما لم يكن لها قيمة إلا بعد الغياب؟ ما يجمع هذه القصص هو تجسيدها للموت كحقيقة لا تنفصل عن الحياة، وكأن الكاتب/الكاتبة يقول: نحن لا نموت فجأة، بل نموت حين ينسى الناس أصواتنا، حين تُرفع أشياؤنا من أماكنها، وحين تُغلق الأبواب خلفنا دون رجعة. الموت في الأدب ليس نهاية، بل بداية وعي جديد؛ وعي يجعلنا نرى الحياة بوضوح أكثر، ولو بعد فوات الأوان. * ماجستير في الأدب المسرحي