الناقد حسين بافقيه في مسامرة أدبية في «مدينة الأدب»..
خمسة مؤلفات تكشف جمال الطائف الأدبي والثقافي.
استضافت الطائف مسامرة أدبية مميزة حملت عنوان «الطائف في خمسة مؤلفات حديثة»، قدمها الكاتب والناقد الأستاذ حسين بافقيه، وأدارتها الدكتورة مستورة العرابي، وسط حضور مثقفين وأكاديميين ومهتمين بالشأن الثقافي. وسلّطت المسامرة الضوء على صورة الطائف في كتابات نخبة من الرحّالة والأدباء البارزين، منهم خير الدين الزركلي، وشكيب أرسلان، ومحمد حسين هيكل، ومحمد عبد الحميد مرداد، وأحمد قنديل، الذين قدّموا وصفًا دقيقًا للطائف باعتبارها «متحفًا مفتوحًا» يحتضن التاريخ الأدبي والجغرافي والثقافي. وقالت العرابي في تقديمها للمسامرة ان النصوص الخمسة التي سيقرأها بافقيه تتنوع مناهجها، وتختلف أصواتها، وتتباين دوافعها… لكنها جميعًا تعود لتصبّ في نهر واحد، وهو: قراءة الطائف بوصفها فضاءً سرديًا، ومركزًا ثقافيًا، ومتحفًا مفتوحًا، ومحطةً إنسانية تتقاطع فيها أسئلة الهوية، النهضة، الجمال، والتاريخ. تاريخ الرحلات إلى الحجاز وقد انطلق الكاتب حسين بافقيه بالقول إن الرحلة إلى الحجاز، وإلى الجزيرة العربية عامَّةً، اختلفَتْ عن الرحلات السابقة، سواءً التي قام بها رحالون عرب أو أجانب، ورأى أن الحج حتى عقود متأخرة حظى برحلاتٍ تشبه في شكلها ومضمونها الرحلات القديمة، وإن اختلفت الوسائل بسبب تَغَيُّر وسائل النقل من الارتحال على الدواب إلى السفينة البخارية، والسيارة، والطائرة، لكن من تلك الرحلات ما استجاب للتحولات التي تقلبت فيها الحياة في العالم العربي والإسلامي، ومنها رحلة خير الدين الزركلي سنة ١٣٣٩هـ التي يصورها كتابه “ما رأيت وما سمعت”، ورحلة شكيب أرسلان سنة ١٣٤٨هـ، ويصورها كتابه “الارتسامات اللطاف في الحج إلى أقدس مَطاف”، ورحلة الدكتور محمد حسين هيكل سنة ١٣٥٥هـ، ويصورها كتابه “في منزل الوحي”. وقال بافقيه إن هذه الرحلات الثلاث تمتاز من رحلات الحج المعروفة، بأنَّ أصحابها الثلاثة من رواد عصر النهضة في الثقافة العربية الحديثة، وأنهم شُغلوا بأفكار التقدم والتحرر الوطني في عصر الاستعمار، والخروج من التبعية للحكم العثماني التركي؛ فالزركلي من قادة الحركة الوطنية في بلاد الشام، وأرسلان عُرِفَ بجهاده من أجل القضايا الإسلامية، أما هيكل صاحب رواية “زينب” فيمثل حيرة المثقف الحديث الذي طوّف في الأفكار الغربية - كما يقول هو في مقدمة رحلته - ثم رأى أنها لا تناسب الأمة ولا تلائمها، ورأى أن ما يوافق الأمة في تحررها إنما هو العودة إلى حضن الثقافة العربية والإسلامية. وأضاف أن هؤلاء الثلاثة الإصلاحيين قصدوا الحجاز في عصر تكوّن الدولة الوطنية الحديثة، أولًا في عهد الشريف حسين بن علي، كما في رحلة الزركلي، وآخرًا عند ولادة الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - في رحلتي شكيب أرسلان ومحمد حسين هيكل. وعلى الرغم من أن بافقيه حصر حديثه على الطائف التي زارها المثقفون العرب الثلاثة، فإنه أشار الى أن هناك سؤالًا واحدًا كان يلحّ عليهم: أين الطريق؟ وكان قدومهم إلى الحجاز استجابة لرغبتهم في البحث عن مَخرج ينقذ الأمة مما هي فيه، وقال بافقيه: إن الأمير شكيب أرسلان الذي جال في العالم العربي والإسلامي وجد في المملكة الأمل القادم لنهضة العرب والمسلمين، وفي الملك عبد العزيز قائدًا لهذا النهوض، وهو الدور الذي لا تزال المملكة تقوم به، لكن الرحالين الثلاثة كانوا كمن يعيد اكتشاف الجزيرة العربية، وصوّرت رحلاتهم في أزمنة مختلفة ملامح هذا الاكتشاف، وأذكرَهم الطائف؛ جباله، وأوديته، وقراه، ومزارعه، وآثاره عصر الرسالة وتاريخ الأدب في مراحله الأولى. الطائف في عيون الرحّالة وأبان حسين بافقيه صور الاتفاق والاختلاف بين الرحلات الثلاث، في ميل الزركلي وشكيب أرسلان إلى الوصف والبحث والتوثيق، واصطناع الدكتور هيكل لتقنيات العمل الروائي، وهو في الأصل روائي، وتشابه الثلاثة في نزوعهم الإصلاحي وتطلعهم جميعهم إلى دور تقوم به الدولة الحديثة في الجزء الأعظم الجزيرة العربية، من أجل نهضة العرب والمسلمين، وعنايتهم بكل ما يتصل بالطائف، بحيث صارت هذه الرحلات سجلات أمينة لجانب مهم من تاريخ الطائف، فضلًا عن توثيق الرحلات الثلاث لـ “سوق عكاظ”، وتحديد الأمكنة الأثرية والتاريخية، والعناية بأدب بادية الطائف ولهجاتها، ومدى قربها أو بعدها من العربية الفصحى. رحلتا مرداد وقنديل وتحدث بافقيه بعد ذلك عن الرحلتين الأخريين، قائلا انهما لأديبين سعوديين: “رحلة العمر” لمحمد عبد الحميد مرداد، و”الجبل الذي صار سهلًا” لأحمد قنديل، وأوضح أن هناك اختلافًا بينهما وبين الرحلات الثلاث السابقة، في أن هذه الأخيرة تَطابق فيها زمن الرحلة وزمن الكتابة، أما رحلتا مرداد وقنديل - وبخاصة رحلته الأولى - فقوامها تذكّر الرحلة بعد عقود عليها، وعلى أن الرحالين السعوديين لم تشغلْهما الأسئلة الكبرى التي شغلت الزركلي وأرسلان وهيكل فإن رحلتيهما تمتازان بأدبيّتهما، وخاصةً “الجبل الذي صار سهلًا” الذي توسَّلَ بقصة عشق حدثت في ريف الطائف لتكون كالخلفية للحدث الضخم الذي تمَّ في عهد الملك فيصل - رحمه الله - وهو شقّ الطرق والجسور في “جبل كرا”، حتى صار الجبل سهلًا، وهو ما يجعل كتاب قنديل وثيقة أمينة في جانب من جوانبه لذلك الحدث الضخم. وقال بافقيه: وأدّى استطراد الشاعر أحمد قنديل وتحوله من موضوع إلى موضوع لأن يكون مصدرًا مهمًا من مصادر الأدب والثقافة في المملكة، وبخاصة في مدينة جدة، للمعلومات النادرة والمهمة عن أدب جيل الرواد، مما لا يوجد في كتاب آخر، أما “رحلة العُمر” فوصف محمد مرداد ملامح الحارات القديمة في الطائف، وأسماء الأودية والقرى، مما يجعله مصدرًا مهمًا من مصادر تاريخ الطائف وجغرافيته. الطائف: مدينة الأدب قبل اليونسكو وأكدت المسامرة أن جمال الطائف لا يكمن في معالمها فحسب، بل في كونها سجلًا مفتوحًا تُقرأ ملامحه في تضاريسه وتاريخه المتجدد. وخلص بافقيه إلى أن الطائف “مدينة إذا ذُكرت اتّسع في القلب معنى الأدب”، فهي عرفت الشعر قبل اليونسكو، ثم منحتها اليونسكو ما تستحقه حين أدرجتها “مدينةً للأدب” ضمن شبكة المدن الإبداعية. وتمنى بافقيه من رئيس جمعية أدبي الطائف عطا الله الجعيد إعادة طباعة الكتب التي تناولتها المسامرة خدمة للطائف وتاريخها. تفاعل الحضور والمداخلات اختُتمت الأمسية بالتأكيد على ضرورة توظيف ما وثّقته هذه المؤلفات في تعزيز الهوية الثقافية للطائف وتقديمها للزائرين بوصفها مدينة تحافظ على روحها الأولى وتستحق أن تُروى سيرتها عبر الأجيال. بعد المحاضرة، فتح باب المداخلات للحضور، حيث أشاد الدكتور عايض الزهراني بالعرض الفني المدهش للضيف ومقدمة الأمسية، فيما قدم الكاتب حماد السالمي إضافة تاريخية موسعة حول الطائف، وشارك المؤرخ عيسى القصير بمداخلة تناولت جوانب ثقافية مضيئة. كما عبّر عدد من الحضور عن إعجابهم بجمال الطرح ورشاقة السرد الذي استمر ثلاث ساعات دون ملل. وأشار محمد العدواني إلى أهمية تسمية شوارع في الطائف بأسماء الرواد الذين وثقوا تاريخها ومكانتها، فيما أثنى عطالله الجعيد على حجم التفاعل والحضور داخل المسرح ومن خلال البث المباشر عبر المنصات الالكترونية. وفي نهاية المسامرة قامت رئيس فريق سفراء الأدب بالطائف الدكتورة مستورة العرابي ورئيس جمعية أدبي الطائف الأستاذ عطالله الجعيد بتكريم الأستاذ حسين بافقيه. كما كرمت العرابي رئيس جمعية أدبي الطائف الأستاذ عطا الله الجعيد لاستضافة المسامرة في مقر الجمعية . والجدير بالذكر أن المسامرة شهدت حضورًا لافتًا من مثقفين ومثقفات وذوي اهتمام بالطائف وثقافتها من داخل المحافظة وخارجها.