في مديحِ سادةِ الترجمة ( 2-2 ):

سرب طويل من الضوء.

في كل مناسبةٍ تخصُّ الترجمة، أرفعُ عاليًا « غترتي» و « عقالي» تحيةً لسربٍ طويلٍ من المترجمين المبدعين الذين يسكنون القلبَ والذاكرة، العاشقين للغة العربية وللأدب الجميل وللإبداع الحيِّ في العالم الذين اشتغلوا بدأبٍ على إثراءِ الوجدانِ، وصقلوا الذائقةَ وأضافوا وردًا كثيرًا فاتنًا لحديقةِ الروح .. هنا إضاءاتٌ يسيرةٌ عن عددٍ من هؤلاء المقمرين. 5 - بسَّام حجار يسكنني عميقًا الشاعر المبدع والمترجم ذو اللغة الرهيفة بسام حجار الذي رحل عن عالمنا في العام 2009 ، تاركًا في درج مكتبه مخطوطة لرواية “ أزاهير الخراب “ لباتريك موديانو ، وهي آخر عمل قام بترجمته..أما آخر رواية من الروايات التي قرأتها مترجمةً بحبره الفاتن وكانت في غاية الجمال رغم قصرها ، فهي رواية “ ما يبقى “ للألمانية المدهشة كريستا فولف. هنا أتذكره لأقول : يرحل المنتجون المخلصون للإبداع الجميل فيما أثرهم العميق الجليل يبقى في القلب والوجدان والذاكرة والزمن .. أقول قولي هذا ؛ لأني مدينٌ لبسام الذي فتح الكثير من النوافذ على الضفاف الأخرى كي نقرأ ونستمتع ونعيش حيواتٍ ممتعةً ما كان لنا أن ندركها لولا ترجمته المميزة.. هذا المخلصُ للأدب الجميل أبدعَ كثيرًا وهو ينقل إلى العربية مثلًا روايةَ  “ سرب طيور بيضاء “ ، رائعة الروائي الياباني ياسوناري كواباتا الحاصل على جائزة نوبل في العام 1968 ، إنها من أجمل الروايات التي قرأتها..وفي هذا السياق ، أذكر أنني ذات مساءٍ هادئٍ امتحنتُ ذاكرتي قليلًا ، وإذْ بي أستعيدُ باقةً مدهشةً من الروايات التي ترجمها بسام حجار ، لفرط جمالها ابتسمتُ بمحبّة ، وقلتُ لنفسي هامسًا : إنها حقًّا تأخذ العقل ؛ كأنه هو الذي كتبها..من تلك الأعمال السردية التي لم تمسسها قوارضُ النسيان :  “ جبل الروح “ ، “ لبس “ ، “ أمس “ ، “ غرفة مثالية لرجلٍ مريض “ ، “ قطارات تحت الحراسة المشدّدة “.   6 - عبدالوهاب أبوزيد هادئٌ كالنسائم ، وصامتٌ كالظلالِ ، ومنتجٌ كالحقول ، هذه هي أبرز صفات صديقنا الشاعر والمترجم عبدالوهاب أبوزيد.كثيرون هم الذين يتقنون لغاتٍ في ساحتِنا الثقافية ، في كلِّ لقاءٍ لنا بهم في مقهًى أو عرسٍ أو مجلسٍ في عزاء لا نسمعُ منهم سوى الجعجعةِ الوافرة ، و لكن لا نرى لهم طحينًا ناصعًا أبدًا ..وحيدًا أضافَ هذا الهادئُ ، الصامتُ ، الرصينُ ، الوقورُ  - بترجماته - إلى حوضِ نعناعِنا الكثيرَ من الوردِ والجميلَ من الحَبَق.الصديق الشاعر والمترجم عبدالوهاب أبو زيد - ابن مدينة الهفوف في المنطقة الشرقية - يستحق الإشادة ، والمحبة ، وأن نرفع له “ الشماغ “ عاليًا تقديرًا واحترامًا لما يبذله من جهود مضنية وراقية في حقل الترجمة..ويسعدني هنا أن أذكر عددًا من الكتب التي قام بترجمتها بحبره الفاتن، مثل كتاب “ خزانة “ وهو مختارات من الشعر السنسكريتي ، و “ في معنى أن نموت “ مذكرات كوري تايلر ، و “ عسل الغياب “ للشاعر الأمريكي مارك ستراند، و “ مثل آدم في جنته “ للأمريكية ماري أوليفر، و “ شخصيات لا تُنسى “ لليندا سينغر..كما  أنفق ضوء عينيه على ترجمة كتاب بعنوان “ أخبار الأيام “ - مذكرات المغني الشهير “بوب ديلان “ الذي كتب أغانيه بنفسه طوال خمسين عامًا والذي رفض جائزة نوبل في العام 2016 (عندما أخبروه بأن اللجنة السويدية على الهاتف لتهنئته بفوزه بالجائزة قال : قولوا لهم إنني نائم وغرق ثانيةً في سباتٍ عميق ) .. بوب ـ كما جاء في تعريف صديقنا المترجم - مغنٍّ وملحنٌ وشاعرٌ وفنانٌ أمريكي ، وهو أيضًا شخصية مؤثرة في الموسيقى والثقافة الشعبية الأمريكية .. يتجلّى في كلمات أغانيه الكثير من الحكمة والاحتجاج ، ما دفع حركات الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين والحركة المناهضة لحرب فيتنام إلى استخدام بعض اغانيه كأناشيد لهم ..عُرِفَ عن ديلان أنه أفاد كثيرًا في كتابة أغانيه من المبدعين الكبار أمثال إليوت ، وإدغار آلان بو ، وبودلير ، وهوغو ، وبلزاك ، وغوغول ، وتشيخوف ... له ستة كتب ، وبيع من اسطواناته أكثر من مئة مليون نسخة في جميع أنحاء العالم ، كما حصل على 11 جائزة غرامي وجائزة أوسكار وجائزة غولدن غلوب وأخيرًا جائزة نوبل للآداب عام 2016... أخيرًا أقول: بستان كامل من الورد يستحقه الصديق الجميل عبدالوهاب ابو زيد لترجمة هذه الكتب الرائعة التي تثري المكتبة العربية ، كما تثري الوجدان وتسمو بالذائقة.  7 - عبدالكريم كاصد لأنه شاعرٌ مبدعٌ ويكتبُ شعرًا صافيًا ، تأتي ترجمتُهُ لشعراء “ الضفاف الأخرى “ عذبةً وصافية..لقد صقلَتْ حبرَهُ الأيامُ ، كما شذَّبَتْ تجربتُهُ الطويلةُ في حقل الكتابة الشعرية تلك الزوائدَ التي قد تطلُّ برأسها في فضاءِ النصِّ الذي  يعكفُ على ترجمتِهِ ، كما شذبَتْ التفاصيلَ التي لا قيمة فنية حقيقية لها..لقد صَيَّرتْهُ التجربةُ “ بستانيًّا “ بارعًا في اجتثاثِ الأعشابِ التي تتطفلُ على جماليات البستان ، وتشوّهُ حُسْنَ الأشجارِ التي يصطفيها. عبدالكريم كاصد حين يعكفُ على ترجمةِ نصٍّ شعريٍّ يتحوّلُ فعلًا إلى بستانيٍّ حصيف ، يعاملُ القصائدَ كما لو كانتْ أشجارًا يليقُ بها أنْ تتبرّج ، ويحرص على تشذيبِ زوائدِها كي تمارسَ فتنتَها كما ينبغي لحسناءٍ أنيقة. عندما قرأتُ ترجمة كاصد لخمسين قصيدة من ديوان “ كلمات “ لجاك بريفير،  وجدتُ أنَّ كاصدًا كان مقتصدًا فعلًا في لغته وهو يترجمُ قصائد هذا الأخير ، فضلًا عن تميز هذه اللغة ؛ لسببٍ بسيطٍ هو أنَّ كاصدًا شاعرٌ مبدع ،وليس مترجمًا موظَّفًا في أحدِ دكاكين الترجمة..يظهرُ ذلك جليًّا في مفرداته وعباراته المختارة بعناية ، حيث جاءتْ لغتُهُ منسجمةً مع تلك الروح التي يتطلبها أيُّ عملٍ شعريٍّ خلَّاق ، فما بالكَ إذا كان ذلك العملُ الشعريُّ لجاك بريفير الذي يقولُ عنه عبدالكريم قاصد نفسُهُ في مقدمة الطبعة الأولى الصادرة عن دار ابن رشد ببيروت في العام 1981 : “ ما مِنْ شاعرٍ أكثر اقتصادًا من بريفير في صوره “..ويضيف : “ في هذا الشعر ليس ثمة تكرار ، غير تكرار الرؤيةِ الثاقبة،  والانفعال العميق للواقع “، وينهي كلامَهُ قائلًا : “ لقد آثرنا في ترجمتنا هذه أنْ نقتربَ من نبضِ شعرِ بريفير وروحِهِ التي تشيعُ في شعره “. أخيرًا أقول : إن مفردات كاصد حين يترجم قصائد الآخرين تنتمي إلى العائلة الشعرية حيث الصفاء والرقة والعذوبة.   8 - فوزي كريم حدث هذا قبل سنوات ..عثرتُ على “ إيميله “ صدفةً وتواصلتُ معه على الفور ..العجيب هو إنني لم أتردد هذه المرة فمن عادتي التردد والحذر في تعاملي مع الكتّاب المشهورين في عالمنا العربي ـ أكثر هؤلاء ينطبق عليهم هذا المثل “ سماعك بالمعيدي خيرٌ من أن تراه “ ، وأضيف من عندي “ وخيرٌ من أن تتواصل معه “ـ المهم كتبتُ له رسالة مقتضبة بصفتي “ قارئًا “ معجبًا بشعره وترجمته وبرنامجه عن الموسيقى الذي كان يقدمه عبر إذاعة mbcfm ، وذكرت له عددًا من عناوين كتبه التي قرأتها ..بعد دقائق جاءني الرد مليئًا بالمحبة والدفء والتواضع .. بعد ذلك بأيام أرسلتُ له مقالًا كنت قد كتبته عنه ـ منذ سنوات ـ في صفحة “ الوجوه “ بعكاظ الأسبوعية ..ردَّ مندهشًا : “ كيف كتبتَ عني بكل هذه المحبة وأنت لا تعرفني ؟ “ ..أجبته : “ إنني أعرفك جيدًا ، أعرفك من نصوصك يا سيدي “ ، وأضفت : “ لقد كتبت ـ منذ سنوات أيضًا ـ عن أعمالك الكاملة الصادرة عن دار المدى إضاءةً طويلة نشرتها على صفحة كاملة في عكاظ “ ..ذُهِلَ الرجل وطلب مني إرسال تلك الإضاءة ..أرسلتها ، لكنه لم يرد ، ظننت حينها أن الكتابة لم ترقْ له ولزمتُ الصمت .. بعد أسبوعين تقريبًا فوجئتُ به يكتب لي رسالةً طالعةً من القلب مكتوبة بحبرِ شاعرٍ حقيقيٍّ وإنسانّ حقيقيّ يعتذرُ فيها بطيبة نادرة عن تأخره في الرد لأنه كان مسافرًا خارج لندن ، ويستأذنني في نشر المقالة الطويلة في كتابٍ كان يجمع مادته و يعمل عليه أحد أصدقائه من الكتّاب العراقيين...حينما كتبت مقالةً طويلةً بعنوان “ عندما يثأر أدونيس من الأموات “ ـ نُشِرَتْ في صحيفة “ الحياة “ اللندنية ـ فوجئتُ برسالةٍ منه تقول : “ لقد أثلجتَ صدري “ ..بعد ذلك توطدت علاقتي به وظلَّ يحثني بمحبّةٍ نادرة على إصدار دواويني المؤجلة قائلًا : “ طربتُ لتجربتك يا محسن “ ..إنه الشاعر والناقد والمترجم والرسام والخبير بالموسيقى العالمية العراقي الجميل فوزي كريم الذي رحلَ عن عالمنا جرَّاء توقف قلبه العامر بالحب والجمال.  9 - توفيق صايغ ويبقى الشاعر توفيق صايغ ـ صاحب “ قصيدة كاف “ الشهيرة ـ متفردًا في ترجمته لخمسين قصيدة من الشعر الأمريكي الحديث .. التي جمعها في كتاب صدرت الطبعة الأولى منه في العام 1963م ، فيما صدرت الطبعة الثانية في لندن في العام 1990م في مجلد فاخر أنيق عن دار “ رياض الريّس”. إن الشاعر صايغ  (المتخصص في الأدبين العربي والإنجليزي ، والمتخرج في جامعتي هارفارد وأكسفورد ) نأى في مشروعه هذا عن الترجمة الحرفية التي تتوخى الأمانة لنقل صورة صادقة لحال الشعر الأمريكي ، كما نأى عن الترجمة الخلاقة التي تترجم القصيدة لا أبياتها وتصوغ الأصل من جديد وتعدّل في ترتيب المقاطع .لقد اختار “ الحل الوسط “ لكي تكون ترجمته قريبة من الأصل الإنجليزي ـ أو بالأحرى الأمريكي ـ يقول توفيق  : “ حاولت فيها أيضًا أن تكون عربية وأن تعطي القارئ العربي ما شاء الشاعر الأصلي أن يعطي قارئه “ .. ويضيف : “ حرصت أن تكون الترجمة ترجمة ، لا تعليقًا ولا توضيحًا ، حتى في المواضع الصعبة المبهمة “ ..ولقد جاءت ترجمته منحازة للجمال.  10 - جمال الجلاصي جمال الجلاصي ، الشقيق ، الإنسان ، المبدع ، مهرب الجمال البارع ، يستحق منا تحية عالية كرايةٍ في سماء نصر ، أو كزغرودة في بيتِ فرح ...رغم أنف المسافات ، يمكث جمال في القلب ، بروحه المرحة ، بلطفه الذي لا يحد ، بثقافته العريضة ، وبدأبه العجيب على القراءة المميزة والكتابة المبدعة والترجمة التي لا تضاهي... هنا جزء يسير من سيرته المليئة ، كما كتبها هو : (ولدت فجر يوم قائظ في البيت القبلي من منزلنا في حومة “القطب” جدي عمر رحمه الله في قليبية. أمي لم تكن تعيش لها الذكور فنصحتها خالتي الشاذلية القابلة أن تثقب أذني اليمنى ..فجئت. كان أبي قد وعد أن يذبح كبشًا ويوزعه على الفقراء إن ولدت آسيا ذكرًا ويعيش لسنة واحدة... عشت في حومة محاطًا بحنان النساء... منحتني النساء محبة لا تُحد، ومنحني الذّكور الغلظة والشدّة... عشت في حومتنا، لا فرق بين منزلنا ومنزل الجيران، فهم اخوالي وخالتي... لا غريب بيننا... كبرت على غناء أمّي “بابا لتّا وبابا لتا وما صابلي من زيّك ستة”... كبرت مدّللا كأيّ ذكر وُلد بعد شوق، كبرت مع أتراب كثيرين، لكنّي كنت أكثرهم نزقا وشيطنة... أغادر الحيّ إلى الأحياء الأخرى بحثًا عن منافسين في لعب “الكجة” أو الخذروف “الكلوط”... واكتشفت الوديان البعيدة التي أقصدها محمّلا بكتاب وقارورة ماء... وسبحت في البحر في كل المواسم وفي كل يوم من أيام السنة وقفزت في الآبار العميقة وصعدت غلى البرج الأثري بمفردي محاولا اكتشاف أسراره... كبرت مع معلّميْن منهم مثلًا خالي رضا الذي أهداني الكتب وهداني إلى طريق المكتبة العمومية... لعبت كرة القدم وكرة الطائرة والجمباز، وكوّنت فرقة رقص عصري مازلت أذكرها إلى الآن...ثم أكلني الأدب وافتكّني من كل شيء... ثم عرفت روضة، زوجتي التي منحتني من الحب ما لم تمنحنيه كل النساء مجتمعات، ذلك الحب الأمومي المغذّي الذي يدفع وينمّي الروح. رغم الخلافات واختلاف وجهات النظر، فإن الحبّ ظل صامدًا. بلغت اليوم نصف قرن مع أربعة أعوام إضافية، ولا زلت ذلك الطفل النزق الشقي الباحث عن البهجة البسيطة، ذلك الطفل الذي يفرح لفرح الناس ويحزن لحزنهم. أحلم أن أهرّب أرواحاً شقيقة بعيدة وان أنهي رباعيّة روائية لتاريخ تونس...أحلم أن أظلّ أحلم إلى آخر يوم في حياتي ). و هنا تذكير يسير بمنجزات الأستاذ جمال في مجال الترجمة : السيد الرئيس لاستورياس ، إضراب الشحاذين ، الأعمال الشعرية الكاملة لليوبولد سيدار سنغور ، كراس العودة إلى أرض الوطن لإيمي سيزير ، الحزينة لكارلوس فونتيس ، الانفصال لدان فرانك ، مختارات من الشّعر الفرنسي القرن السّادس عشر ، مختارات شعريّة لأفريد دي فينييه ، مختارات شعريّة لشعراء العصر الباروكي.  11 - محمد آيت حنّا  لقد كنتُ في غفلةٍ عن المترجم الفذ محمد آيت حنَّا ( كاتب مغربي ، مهتم بالفلسفة والأدب ) حتى قرأتُ ترجمته الجميلة الصافية لكتاب “ الأميّة “ ، سيرة الروائية المجرية المبدعة أغوتا كريستوف .. بصدقٍ أقول : إنه مترجمٌ بارعٌ ذكّرني بالمترجم العذب بسّام حجّار ذي اللغةِ النقيّةِ الجليلةِ الصافية .. لغة “ حنّا “ حرضتني على مطاردة الأعمال السردية الأخرى لأغوتا كريستوف.