عرفتُ أستاذي أبا جابر الدكتور عبد العزيز بن عبد الله المقبل قبل أن يدرّس لي مقرّر النصوص الأدبيّة في المستوى السادس في قسم اللغة العربيّة في كليّة اللغة العربيّة والدراسات الاجتماعيّة في فرع جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية في منطقة القصيم، وكنت وقتذاك أسمع عنه كلّ خير ممّن درس عنده في المعهد العلميّ في بريدة قبل انتقاله إلى الجامعة أو ممّن درس عنده في الجامعة، وكنت في شوق شديد للتلمذة على يديه، فقد عُرِفَ أستاذي بالإخلاص في تدريسه لما يُسنَد إليه من مقرّرات، وعُرِفَ أيضًا باهتمامه بالجانب التربويّ الذي يسعى به إلى بناء شخصيّة الطالب سلوكيًّا ومعرفيًّا. واهتمامات أستاذي متعدّدة ممتدّة، ولا يمكن الإحاطة بها في هذه السطور القليلة، ولكنّي سأتحدّث بما تسعف به الذاكرة عن أستاذي بوصفه أستاذًا جامعيًّا درّس لي مقرّرًا واحدًا فقط، وكان له عظيم الأثر في نفسي، وفي نفوس زملائي عندما درّس لنا ذلك المقرّر، وقد عرفتُ أستاذي جادًّا عالمًا متواضعًا دمثَ الخلق مرحًا أحيانًا. ومن أمارة جدّه منذ بدء الفصل الدراسيّ أنّه دخل علينا القاعة الدراسيّة ومعه ثلاثة كتب عن الأندلس كلّها من تأليف الدكتور حسين مؤنس -رحمه الله- وكان حريصًا أن نقرأ شيئًا منها للإفادة منها في تزجية وقت المحاضرة الأولى التي هي اللقاء الأوّل بين الأستاذ وطلّابه، وهذا يدلّ على حرص أستاذي على استثمار الوقت، وعدم إضاعته بالقيل والقال، وفي وسط المحاضرة طرأ بذهني أن أسأله عن بعض الكتب التي كنت أقرأ في بعضها آنذاك فسألته عن كتاب موسيقا الشعر للدكتور إبراهيم أنيس -رحمه الله- فأعطاني رأيه فيه بما له وبما عليه، وكان يشجّعنا على القراءة وقال لنا: قد تُقرَأ بعض الكتب قراءة سلبيّة، فليس كلّ ما في الكتب صحيحًا مدقّقًا. ولعلّي أحاول تذكّر بعض خصال أستاذي التي كان لها أثرٌ مهمٌّ في نفسي حتّى هذه الساعة، ومن أهمّ هذه الخصال: الأولى: الوفاء بوعده مع الطلّاب: وكان يفي بوعوده مع الطلّاب إذا وعدهم بشيء، ومن حرصه على وفائه بوعده أنّه لا يحتاج إلى من يذكّره بذلك، فقد كان عندي مادّة بحث في المستوى السادس في موضوع يتعلّق بالقراءات القرآنيّة، فطلبت منه أن يذكر لي بعض المراجع المعينة على كتابة بحثي، فجاءني في المحاضرة التي تليها بقائمة فيها أسماء بعض كتب القراءات، وبعض الدراسات المعاصرة حول القراءات القرآنيّة، ومنها -بحسب ما أذكر- كتاب السبعة لابن مجاهد، وكتاب أثر القراءات القرآنيّة في الدراسات النحويّة لعبد العال سالم مكرم، وغيرها. الثانية: التعب في تحصيل المعلومة وتحقيقها وتوثيقها: كان أستاذي حريصًا أشدّ الحرص على زرع المثابرة في تحصيل المعلومة المدقّقة الممحّصة في أذهان طلّابه، ومن أمثلة ذلك أنّه عندما درّس لنا قصيدة أبي المظفّر الأبيورديّ التي مطلعها: (مزجنا دماءً بالدموع السواجم ... فلم يبقَ منّا عرضة للمراحم)، وهذه القصيدة منسوبة إلى أبي المظفّر، وتوجد في الزيادات المطبوعة في الجزء الثاني من ديوانه، وقد حاول أستاذي توثيق هذه القصيدة من المصادر التاريخيّة سواء أكانت مصادر في تاريخ الأحداث أم مصادر في تاريخ الرجال، ووضع لنا قائمة من كتب التاريخ التي أرّخت لمنتصف القرن الخامس، وبداية القرن السادس، وهذه القائمة تربو على خمسة عشر كتابًا تاريخيًّا بعضها أوردت القصيدة كاملة، وبعضها أوردت شيئًا من أبياتها على اختلاف في رواية بعض الكلمات؛ وذلك لتدريبنا على عمليّة التوثيق العلميّ من المظانّ الأصليّة، وأذكر من ضمن هذه المصادر -بحسب ما أذكر- المنتظم لابن الجوزي، وتاريخ الخلفاء للسيوطيّ، والكامل لابن الأثير، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي. ومن الأمثلة أيضًا تحقيق تاريخ وفاة الأبيورديّ أهي في سنة 507هـ، وهو الصحيح والمتداول أم في سنة 557هـ التي وردت في بعض طبعات وَفَيات الأعيان لابن خلّكان؟ كما نصّ على ذلك عمر الأسعد (انظر: مقدمة تحقيقه لديوان الأبيورديّ، جـ1، ص20، ص21)، وقد فنّد التاريخ الثاني (557هـ) بأدلّة لا أستحضرها الآن. الثالثة: ليس شرطًا أن تفهم كلّ شيء، بل قد لا تستطيع أنّ تفهم إلّا بعض الشيء: ومن أمثلة ذلك أنّه عندما وصل في شرحه لقصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل إلى هذين البيتين -إن لم تخني الذاكرة- فمزّقت جيب الليل عن شخص أطلس... تطلّع وضّاح المضاحكِ قاطبِ رأيت به قطعًا من الفجر أغبشًا ... تأمّل عن نجم توقّد ثاقب فقال: إنّ هذين البيتين غامضان؛ بسبب تزاحم الصور فيهما، ممّا جعل المعنى يخفى قليلًا، وإنّي أكاد أجزم أنّ أستاذي مدركٌ معنى هذين البيتين، لكنّه أراد تربيتنا على مبدأ ما لا يُدرَك كلّه لا يُترَك جلّه. الرابعة: حثّ الطلّاب على مزيد من الاطّلاع والاستزادة حول الموضوعات المدروسة في المقرّر: وذلك جليّ في وضع قائمة مصادر ومراجع بعد كلّ موضوع للاستزادة حول ما كتب عن الشاعر وشعره من تحقيق ديوانه أو ما كتب عنه بعض الدارسين المحدثين، ومن أمثلة ذلك عندما درّس لنا قصيدتي المعتمد بن عبّاد تحدّث عن تحقيق ديوانه الذي حقّقاه أحمد بدوي وحامد عبد المجيد بمراجعة طه حسين، وعن كتاب عليّ أدهم ذي العنوان (المعتمد بن عبّاد)، وعندما درّس لنا أبا المظفّر الأبيورديّ ذكر أنّ ديوانه بتحقيق عمر الأسعد، وقد كتب عن الأبيوردي ممدوح حقّي كتابًا عنوانه (الأبيورديّ ممثّل القرن الخامس في برلمان الفكر العربيّ)، وتحدّث عن تحقيق محمود عليّ مكّي لديوان ابن درّاج القسطلّيّ، وعرّفنا ببعض الدراسات المعاصرة حول الأدب الأندلسيّ مثل: كتاب الأدب الأندلسيّ: عصر سيادة قرطبة، والأدب الأندلسيّ عصر الطوائف والمرابطين وكلاهما لإحسان عبّاس، وكتاب دراسات أندلسيّة في الأدب والتاريخ والفلسفة للطاهر أحمد مكّي، وكتاب أحمد أبو حاقّة البلاغة والتحليل الأدبيّ الذي فيه تدريبات على تحليل النصوص الأدبيّة، وغيرها من الكتب النافعة. الخامسة: بذر النبتة الإبداعيّة لدى الطالب: كان لنصوص الأدب الأندلسيّ ساعتان من المقرّر، وساعة مخصّصة لمادّة القراءة، وكان أستاذي يستثمر هذه الساعة في تدريبنا على الكتابة الإبداعيّة، وأذكر أنّه طلب منّا مرّة أن نكتب عن حالنا بعد خمس سنوات كيف نتخيّل ماذا حصل لنا في المستقبل، فقد فتح لنا مجالًا للكتابة الخياليّة التي أخذتنا بعيدًا عن واقعنا المعيش آنذاك، وكان أيضًا يزودنا بنصوص مكتوبة، ويسألنا عن إعراب بعض الكلمات؛ لكي نقرأ النصّ قراءة استيعاب ووعي. السادسة: تغذية وجدان الطلّاب بنصوص شعريّة عالية: كان أستاذي يحرص على اختيار النصوص الشعريّة المفعمة بالجماليات اللغويّة والتصوريّة، وقد تعدّ تلكم النصوص من عيون الشعر الأندلسيّ، فقصيدة ابن خفاجة كانت تؤنسن الجمادات فالجبل يتحدّث، وكأنّه إنسان يعبّر عن مشاعره في قصيدته التي وصف فيها الجبل التي مطلعها: بعيشك هل تدري أهوج الجنائب ... تخبّ برحلي أم ظهور النجائب وقصيدتا المعتمد بن عبّاد اللتان تعبّران عن حال المعتمد الإنسانيّة، وعلاقته بأسرته الخاصّة من زوجه (اعتماد الرميكيّة)، وبناته كانتا مفعمة بالإنسانيّة، وهاتان القصيدتان مطلعهما: مطلع الأولى: فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا ... فساءك العيد في أغماتَ مأسورًا مطلع الثانية: دعا لي بالبقاء وكيف يهوى ... أسيرٌ أن يطول به البقاء وقصيدة ابن درّاج القسطلّيّ التي تحدّث فيها عن الجانب الإنسانيّ، ورحيله عن زوجه وابنه الصغير الذي ما زال في مرحلة المهد، ومطلع هذه القصيدة: دعي عزمات المستضام تسير ... فتنجد في عرض الفلا وتغور ثمّ ختم أستاذي انتقاءاته لعيون القصائد الأندلسيّة العالية بقصيدة رثاء الأندلس لأبي البقاء الرُّنديّ التي مطلعها: لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان ... فلا يغرّ بطيب العيش إنسان واختار لنا حينها نصًّا لأبي المظفّر الأبيورديّ يمثّل المآسي الإنسانيّة في حقبة الحروب الصليبيّة، والذي مطلعه: مزجنا دماءً بالدموع السواجم ... فلم يبقَ منّا عرضة للمراحم كلّ هذه النصوص تتّسم بالمضامين الإنسانيّة التي كان وعاؤها اللغة العربيّة العالية من حيث المفردات وجمال التصوير البيانيّ. هذا بعض ما تيسّر إيراده ممّا جادت به الذاكرة عن بعض خصال أستاذي المفضال الدكتور عبد العزيز المقبل، أرجو أن أكون قد وفّيتُ بشيء من أفضاله الكثيرة عليّ. وفي الختام، أسأل الله القدير أن يوفّق أستاذي الدكتور عبد العزيز بن عبد الله المقبل، وأن يطيل في عمره، ويحسن عمله، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، ويلبسه ثوب الصحّة والعافية، وينفع به وبعلمه.