الأستاذ الغائب.
أستاذيّته غريبة، فهو المتوفّى قبل ولادة الفتى بأربع من السنوات، لكن الفتى نشأ وترعرع وذكرُ الأستاذ الغائب ذكر جميل، أقام له في مخيّلته صورة مزهرة، وبنى له مكانة مقدّرة، ورسّخ في جنانه ذكرى مشوّقة؛ فكان هذا سببًا في أن يكون الغائب الحاضر في مسيرة الفتى. إنّه جدّ الفتى لأبيه: عبدالله بن عبدالكريم السديس، وأستاذيّته للفتى مع عدم التقائهما لها وجه آخر؛ إذْ أدرك تقدير أبيه له، وتأثّره به في بعض جوانب شخصيته، فانتقلت إليه الأستاذيّة من أستاذيّته لأستاذ الفتى الأهمّ، وارتوى من جدول كان النبع يفيض فيه. حفر الجدّ الأستاذ الغائب وهو في حفرة قبره في نفس الفتى احترامًا عميقًا وحبًّا صادقًا، مصدره سيرة عطِرة كريمة، بثّت أريجها في أسرته ومجتمعه، حتى إنه لم يَعرف عنه إلا خيرًا، ولم يسمع إلا ذكرًا طيّبًا، وأدرك عيانًا في أوائل حياته أنّ “الذكر للإنسان عمر ثانٍ”، وكان هذا درسَه الأوّل، وهو درسٌ متين عميق. من صفحات أستاذيته صفحات برّه بأبيه، مع أنه من أصغر أبنائه، وقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه لم يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، فلم تمنعه فورة الشباب من أن يكون يدًا لأبيه وعونًا؛ فكان متفقّدًا لاحتياجاته، متابعًا لطلباته، حريصًا على راحته، وكان هو من يُعدّ القهوة له، ويَمضي معه مصاحبًا ومرافقًا، واليوم يدرك الفتى أنّ تلك الصفة صفة يحبّها الأب في ابنه، وتُشعره بقرب وبرّ! وكان لبرّه وجه آخر إذْ امتدّ علوًّا لأبيه، ونزولًا لإخوانه وأخواته، إذ مات والده ـــ رحمه الله ـــ عن ابن وابنة صغيرين غير شقيقين، فتعاهدهما برعايته وعنايته، وشفقته وحنانه، وعدّهما من أبنائه، ثم التفت إلى ابن أخته بعد وفاة زوجها، فتعاهده وبقي وليًّا عليه مدّة من عمره. كان الأستاذ الغائب يدًا لأبيه وإخوانه بيد معطوبة، إذ إنه فقد جزءًا كبيرًا من حركة يُمناه في معركة من معارك ذلك الزمن، حتى كان لا يستطيع الأكل بها، وكان في هذا درس بالغ للفتى حين علم؛ إذْ عرف أنّ الحياة تحتاج إلى جدٍّ وصبر وتحمّل، وأنّ الشدائد تبثّ القوّة، وآمن أنّ “الذي لا يَكسر يُقوِّي”. عاش هذا الأستاذ المكافح أكثر من خمسين عامًا على هذه الحال، لكنه ظلّ إلى أن جاوز السبعين يعمل في مزارع عديدة، يبدأ يومه بعد صلاة الفجر بمبادرة وهمّة وعزم، وتوسّع في أعماله وزراعته حتى كان يستجلب عمّالًا ليساعدوه، وعرفوا فيه حزمًا وجدًّا، لكنهم أحبّوا العمل معه لأمانته، ومبادرته بإعطائهم حقوقَهم وإكرامِهم. وأضاف الأستاذ الغائب في نفس الفتى الحفيد ـــ بَعد دهر، وبُعدِ عهد ـــ جانبًا إنسانيًّا عميقًا بإقراض الناس ومساعدتهم، مع الدّقة والتسجيل، والتوثيق والتيسير، فكانت يده معطاءة، تُلوّح بسخاء وسماحة. ومن سيرته ذات الأثر علاقتُه بالعلماء؛ إذْ كان محبًّا لهم مقرِّبًا، وباذلًا مُكرمًا، علّم ذلك الفتى أنّ ما لا يدركه من العلم تحصيلًا يدركه في أسبابه تيسيرًا، وأنّ الفعلَ الجميل شطرُ العلم الجليل، وأنّ المرء يبلغ منزلة بقربه من أهلها، فـ”هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”. وكان لوفائه نُبلٌ وفرادة، وسموٌّ وشهامة، ظهر في وفاء لزوجته وأمّ أولاده الكبار، فأطلق يدها لتنفق من ماله على المحتاجين، وتنازل عن ميراثه منها ليكون ضمن وقفها، واجتهد في تنميته لها. لم يكن غريبًا أنْ يوهب ذاك الرّجل ـــ ببرّه وجِدّه وأمانته ـــ بركةً في ماله ورزقه، فحيا حياة ميسورة، وامتدت في ذريّته بركته، وحسبك بذلك إحسانًا وافيًا، ودرسًا باقيًا، أدرك منه الفتى “أنّ أباه كان صالحًا”. واتصف هذا الأستاذ بصفة نادرة الوجود؛ إذْ كان مُعرِضًا عن اللغو وكثرة الكلام، كارهًا للقيل والقال، نافرًا من ذكر أحد من الناس، يغضب إذا ذُكر أحدٌ عنده بسوء؛ فجمع بين عفاف اللسان وعفاف الفِعال، فصار ذكره محمودًا، وعيشه ممدودًا. وفي العقد الأخير من عمره عهد إلى أكبر أبنائه بمتابعة أعماله، وانقطع للتبتّل والعبادة، حتى صار لا يُرى إلا تاليًا أو ذاكرًا، واستأجر بيتًا صغيرًا ليس فيه إلا غرفة واحدة لينعم بجوار المسجد آخر عمره، حتى صار الطعام يُحمل إليه هناك ليتناوله في خَلوته؛ طعامَ كفاية وتقوٍّ وحاجة، لا طعامَ ترف وتمتّع وزيادة. وبهذه السيرة حقّ له أنْ يكون أستاذًا لصاحبنا وإن لم يلْقَه، يصدق عليه: يا غائبًا حاضرًا أبقتْ مكارمُهُ ذكْراهُ تحْيا على بُعْدٍ لأبْدانِ