في « العصفور الحافي » أنبتنا له الريش الكافي..

قراءة تعريفية في السيرة وتشكلاتها الجمالية .

فاتحة: ... والسيرة الذاتية أو الغيرية تتنامى تصاعدياً يبن إثبات الأنا وتحقيق الذات.. وتنازلياً/ من كونها حنين للماضي واسترجاع للذكريات.. وبين التصاعد والتنازل تأتي التجارب، وتحضر النجاحات والإخفاقات وصدى السنين الماضيات.. في ثوب فضفاض من القصص والحكايات!! في السيرة.. أياً كانت نجد الرحلة الاسترجاعية الماضوية، كما نجد إعادة الـ(ماكان) في الحياة بكل تفاعلاتها، نجد فن المحو، والإثبات ونجد الكشف والستر/ الفتح والإغلاق والمواربة!! والسيرة من كل هذا هي: حكيٌّ استعادي نثري يقوم به الشخص اعتزازاً بما قدم وتسجيلاً لما أنجز، وافتخاراً بما نجح، واعتباراً مما أخفق!! هنا تأتي سيرة بخيت بن طالع الزهراني الموسومة بـ/ العصفور الحافي!! والتي يعرفها لنا في استهلاله في ص 5-6 بأن العصفور رمز للحرية والانعتاق من نمط الحياة الرتيبة بمحدداتها المعينة وفق ظروف عائلية بسيطة/ متواضعة، كان المشي على الأقدام ميزة ذلك المجتمع وتلك الفترة الزمنية. ومن هنا جاءت رمزية (الحافي)!! وعندنا مثل شعبي يقول: إذا شفت (الحافي) قل يا كافي!! وهذا ما نتوقعه من صاحبنا (الحافي) بخيت طالع الزهراني، الذي أراد أن نصحبه في سيرة ذاتية/ مجتمعية/ ثقافية/ صحفية وجاءت في ثلاثة أبواب: الأول: طفولته وشبابه. الثاني: تجربته التعليمية. الثالث: تجربته الصحفية. وفي كل باب من هذه الثلاثة، مجموعة من القضايا والحكايات التي يصطفيها الكاتب ليشكل منها (سيرته الذاتية)، وهي العقد/ الميثاق بينه كمؤلف وبين القارئ والناقد، وهو ما جعله يسجل هذا الصنف الأجناسي في صفحة العنوان (سيرة ذاتية). * القراءة واكتشافاتها: وكناقد يتحلى بالموضوعية والمنهجية، فسوف نكاشف هذه السيرة عبر ثلاثة أيقونات تفاعلية استجابت لها ذائقتنا القرائية والنقدية وهي كما يلي: أولاً: الجديد في هذه السيرة: وككل القراءات الناقدة يقف القارئ متسائلاً عما أضافه هذا المقروء من رؤى معرفية، أو أفكار حضارية، أو مواقف فيها دروس وعبر. ولهذا سأجيب عن هذه التساؤلات في نقاط مختصرة وشواهد عملية.. فأولاً: نجد تجليات النَّص القروي واضحة المعالم في هذه السيرة منذ البداية، فالقرية الوادعة والرابضة في مكان جبلي قصي (ص9)، وخزان الماء في زربة الساحة البيتيَّة (ص14) .، البئر والقربة، كيس العلف!! ثم تنكشف هذه القرية/ البلدة الوادعة التي كانت مغيبة اسماً وكينونة، ليعلن عن اسمها فهي (الأطاولة) بمنطقة الباحة جنوب السعودية ص19. وتبدأ الوصوف الجغرافية لهذه البلدة/ القرية مما يؤكد قروية النَّص السيري وخاصة في بعده الاسترجاعي!! ثم تتواصل المعطيات السردية في بُعدها/ نصَّها القروي، فنجد المعالم القروية من حصون (ص ص 30-31) ومسميات زراعية (ص ص 42-43) وأسواق محليَّة، وطب شعبي (ص ص 37-55) وعادات الزواج (ص ص 82-87) والتنمية والتطوير في القرى والأرياف بمنطقة الباحة وما حولها (ص ص 209-211)، والمناسبات القبلية.. ومدارس القرية والتعليم فيها، وغيرها من الصور والعادات والتقاليد القديمة (ص ص 214-215). وفي هذا دلالة على (النَّص القروي) ومعالمه التي ناقشتها في كثير من قراءاتي النقدية!! (انظر كتابنا: في فضاءات النَّص السردي السعودي المعاصر 2013م، وكتابنا: النص القروي/ حضور القرية في النص الأدبي السعودي المعاصر (سرداً وشعراً) 2017م.. الأمر الثاني المبهج تلك الالتفاتة الفكرية إلى دور المذياع في التعريف بالعوالم الخارجية، ليخرج ذلك (العصفور الحافي) من بلدته المحلية إلى العالمية وتجلياتها محمولاً على بُسُطٌ من التحرر ونزع القيود القبلية.. وكذلك الإشارة إلى دور الثقافة والاطلاع والقراءة في المجلات والدوريات والصحف كنافذة جديدة لبناء أفكار خلاقة (مجلة هنا لندن) ص63. ثم تتجلى المعالم المدنية حيث انتقل وارتحل (العصفور الحامي) إلى جدة، وما تمثلها من حارات وسكان، وشواطئ وحضارة وبحر وسياحة، وتعلم اللغة الإنجليزية ص74، وصورة المقاهي في المدن والحواضر، والعمل في الصحافة، والسفر خارج المملكة.. (انظر الفصل الثالث تجربتي الصحفية) والفصل الثاني (تجربتي التعليمية). وأـخيراً تتجلى المعالم التجديدية التي يشعر بها القارئ في تلك المنهجية التي اتَّبعها الكاتب لرصد (سيرته الذاتية) عبر تمرحلاتها المنطقية، فخصص الباب الأول لمرحلة الطفولة والشباب، والباب الثاني لتجربته التعليمية، والباب الثالث للتجربة الصحفية. وفي كل تلك الأبواب يثبت للقارئ أنه تأسس حياتياً على بناء الذات تعليمياً، والاعتزاز بالقرية وقيمها التي نشأ عليها، والتمسك بالعصامية التي تربى عليها، والطموح المستقبلي الذي رسمه لحياته بعد مشيئة الله وتوفيقه. وإثباتاً لذلك نجد الكاتب يتحدث عن مجموعة من المؤشرات الدالة على هذه الفضاءات السيرية والتي لخَّصها في جملة مكثفة ودالة على بدايات السيرة: يقول الكاتب عن أحلامه وآماله وما تحقق منها: - كانت أمنيتي أن أصبح طياراً... ظروفي المادية حولتني إلى معهد المعلمين الثانوي ومكافأته الشهرية 200ريال. - كان حلمي أن أكون شاعراً... ومات هذا الحلم!! - فكرت أن أكون مؤلفاً وكاتباً؟؟ « شاء الله أن أكون معلماً، فمدير مدرسة لاحقاً، وفي وقت ما بعد العمل الرسمي اشتغلت على هواية لذيذة اشتهتها ذاتي (ووجدت فيها نفسي) اشتغلت صحافياً، وكاتب مقالات، وقصص» ص27. ثم يسير الكاتب في سرد سيرته الذاتية عبر تلك التمرحلات وما مرَّ به من خبرات ومواقف وتجارب أثْرَت حياته الشخصية، وطوَّرت إمكاناته الحياتية، وبَنَتْ شخصيته المجتمعية. ثانياً: المواقف والخبرات وتجلياتها السيرية: ومن أبجديات السيرة الذاتية، اشتمالها على الكثير من المواقف الحياتية والخبرات والتجارب التي عاشها المؤلف/ صاحب السيرة، لأن في ذلك الغاية العظمى من كتابة السيرة.. ولهذا نجد كاتبنا (اعصفور الحافي/ بخيت الزهراني) – وفي كل أبواب السيرة– يدون تلك المعطيات في صيغة سردية/ قصصية.. وهذا ما أسميه (نقدياً) التفاعل الأيقوني بين الكاتب/ كذات سيرية، وبين المجتمع والعالم من حوله، لنصل إلى القارئ في ثلاثية الكاتب والمكتوب والمتلقي!! وتتجلى هذه الفضاءات النَّصية أو النُّصوصية في شواهد وأمثلة كثيرة نشير إلى شيء منها فيما يلي: - الموقف مع العم (حويمد) الحارس في إحدى مدارس جدة، والذي عاش حياته منكراً لذاته، ومكرساً حياته لخدمة أهله وأخواته، حتى إذا بلغ الستين/ مرحلة الكهولة دون زواج ولا حياة عائلية ص ص 97-102. - الموقف مع مكافآت المعلمين ومبلغ 300.000 ريال التي خشي عليها من السرقة أو الحريق ص ص 103-116. - الموقف مع الدكتور عبدالله مناع (يرحمه الله) وهو رئيس تحرير اقرأ، والتقرير الذي أودع سلة المهملات، وما تعلمه منه في فنون الصحافة والتقارير الصحفية المميزة ص 139-145. - الموقف النبيل مع رئيس بلدية جدة المهندس محمد سعيد فارسي (يرحمه الله)، وجلوسه على كرسي الرئيس، ومرافقته وإجراء الحوار معه، ص 165-169. - موقفه عند الوزير غازي القصيبي وزيارته في البحرين، وهو سفير للمملكة وتواضعه وكرم نفسه ص 217-222. كل هذه المواقف – وكثير غيرها – يوثقها الكاتب (بخيت الزهراني) في سيرته لامن باب التفاخر أو إثبات الذات، ولكن من أجل تحقيق الغايات من وراء كتابة السيرة الذاتية. وقد جاءت كلها وفق منهجية كتابية موثقة، وأساليب سردية ممتعة، وجماليات توثيقية مفيدة. ثالثاً: الأساليب الإنشائية وجمالياتها: يبدو لي – من مجمل هذه السيرة الذاتية – اتكاء الكاتب على الأسلوب القصصي/ السردي، ليقدم للقارئ ذاته ونفسه عبر تمرحلاتها الحياتية والوظيفية والخبراتية. ولذلك جاء تقسيم السيرة إلى ثلاثة أبواب، وكل باب يشتمل على عناوين فرعية لقصص مسرودة بجماليات فنية وأسلوبية، تبرز فيها (الأنا) الواثقة، المنتجة، المتجددة، الصابرة، المثابرة/ حتى تحقق لها ما وصلت إليه. كما تظهر أساليب استدعاء الذاكرة، أو الاسترجاع. كأحد الفنِّيات الأسلوبية في كتابة السيرة الذاتية، فنجد (العصفور الحافي) يمارس هذا الأسلوب فيكسر تسلسل الأحداث ويستدعي لقطات من الماضي، ليتم دمجها في الحاضر السردي ليصل بالقارئ إلى الامتزاج الروحي والثقافي. وأيضاً يقف القارئ على فنية جمالية في هذه السيرة، وهي وضوح اللغة وصفائها وبساطتها، بحيث يسهل متابعة السرد وفهم المقصد والوصول إلى الهدف والغاية، بكل وضوح ومفهومية. والناقد هنا، يجدها لغة صادقة لا تكثر من المديح والثناء غير المستحق، ولا رفع الذات فوق الواقعية. إنها لغة منصفة/ واقعية/ صادقة. وهذا يرفع رصيدها من المقروئية. ومن الجماليات الأسلوبية اللافتة في هذه السيرة، فن الوصف والتصوير للمواقف والأزمنة والأمكنة والأشخاص بطريقة تجعل القارئ يتخيل هذه المواقف ويعايشها ويتأثر بها. أضف إلى كل ذلك الإيجاز والاختصار والشمولية المعبرة عن الذات المسكونة بالبكاء والإنجاز. وهذا ما يسميه النقاد فن الحذف والتقميش، فالمواقف الحياتية لصاحب السيرة تحتمل التطويل والتمدد والتفريعات، ولكن صاحبنا (العصفور الحافي) يركز ويكثف ويختصر لكسب القارئ المعاصر الذي ليس لديه الوقت لقراءة آلاف الصفحات!! ختام: ... وبعد هذه المكاشة النقدية، والاستبطان المعرفي، لسيرة بخيت بن طالع الزهراني الموسومة بـ (العصفور الحافي)، تجعلنا أمام عمل سردي يستعيد التاريخ الماضي ويجعله بيننا حاضراً مقروءاً، وتجارب صادقة مفيدة لأجيالنا القارئة. نعم وجدناها سيرة كفاح وعصامية، سيرة شظف وصبر وتكوين، سيرة نجاح وبلوغ الغايات، سيرة القناعة والرضى بالمقسوم. وهذه فضاءءات تضيف للعمل السيري المكتوب والمنشور قيمة معنوية واجتماعية وثقافية، كما تعطيها مصداقية ومقبولية قرائية. وهذا ما جعلني – كناقد – أتماهى معها وأستوعب معطياتها، وأقدم هذه القراءة الناقدة عنها فلم يعد العصفور (حافياً) بل أنبتنا له (الريش) الذي يكفيه لتحليق والطيران في فضاء الثقافة وديوان الكلمة السيرية!!