الأعمال المعلّبة في يوم عرفة!

في كل عام، وقبيل يوم عرفة، تنتشر مقاطع مرئية ومقالات لعدد من المهتمين بالدعوة والإرشاد، يضعون فيها برامج مفصلة لما ينبغي على غير الحاج أن يفعله في هذا اليوم الفضيل. تبدأ هذه البرامج غالباً من ليلة عرفة، وتمتد إلى مغيب شمس اليوم، ويُطلب من المسلم فيها أداء جملة من العبادات على نحو متصل ومكثف: من قراءة سورة كاملة تتضمن ألف آية، إلى قيام الليل، فالاستغفار مئة مرة، والتسبيح مثلها، والتشهّد كذلك، ثم أذكار الصباح، وصلاة الضحى، ومزيد من الذكر حتى صلاة الظهر، ومن بعدها تكرار البرنامج الليلي حتى قبيل المغرب، ثم التفرغ للدعاء. ولا شك أن هذه الأعمال في أصلها أعمال صالحة، ولا يُنكر فضل الذكر والعبادة في هذا اليوم العظيم، لكن الإشكال يكمن في صياغتها على هيئة برامج “معلبة” جاهزة، تُقدَّم وكأنها المنهج الوحيد الذي ينبغي سلوكه، حتى أصبح المسلم يشعر أنه مطالب بأن يتحوّل في هذا اليوم إلى آلة لا تنقطع عن العمل. ولو تدبرنا القرآن الكريم، لوجدنا أن الله تعالى لم يضع هذا التكلف حتى على الحجاج أنفسهم. فقد قال تعالى: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ » وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ” في هذه الآية، أباح الله للحاج أن يبتغي الرزق أثناء الحج، من تجارة أو بيع وشراء، ولم يفرض عليه الانقطاع التام عن شؤون الدنيا، فكيف يُفرض على غير الحاج أن يعتزل الدنيا في هذا اليوم ويستغرق في برنامج مرهق بدنيًا ونفسيًا، وكأن ذلك هو الطريق الوحيد للقبول؟ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه الأعرابي وسأله عن العمل الذي يدخله الجنة، أجابه ببساطة: “تعبد الله، لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.” فقال الرجل: “والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص.” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أفلح إن صدق.” لم يطلب منه نوافل ولا اجتهادات، بل أقرّه على التزام الفرائض، وأثنى على صدقه. أين نحن اليوم من هذا التيسير؟ إن بعض المتحمسين – رغم حسن نيتهم – قد غفلوا عن فلسفة العبادة في الإسلام، والتي تقوم على الاستمرارية لا الكثافة، وعلى اليسر لا المشقة، وعلى صدق القلب لا عدد التكرارات. قال صلى الله عليه وسلم:”أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.” وقال الله تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.” وقال في موضع آخر: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان.” فهو سبحانه لا يطلب من عبده أكثر من أن يتوجه إليه بقلب صادق، ودعاء نابع من خشوع، وذكر ينبع من محبة، لا من التزام مجدول كأننا آلات تعمل وفق تعليمات برمجية لا روح فيها. الخلاصة: يوم عرفة هو يوم عظيم، يُستحب فيه الصيام، والذكر، والدعاء، والتوبة، والعمل الصالح. لكن ليس من شرط القبول أن تلتزم بجدول جاهز أُعدّ مسبقاً. افعل ما تقدر عليه، واجعل قلبك حاضراً، وليكن دعاؤك صادقاً، وعملك مستمراً، ولو كان قليلاً. فالإسلام لم يُبْنَ على التكلف، بل على اليسر، والنية، والاتصال الدائم بالمولى عز وجل.