أشهرت إسلامها أمام بابا الفاتيكان..

زينب كوبولد.. أول بريطانية تقوم برحلة للحج.

وُلدت إيفلين كوبولد في اسكتلندا عام 1867، لعائلة أرستقراطية من النبلاء. وخلال سنوات طفولتها المبكرة، سافرت مراراً بصحبة والديها إلى الخارج، حيث كان والدها الرحّالة والمستكشف «إيرل دونمور السابع» يصطحب عائلته إلى شمال أفريقيا كل شتاء، هربا من الأجواء البريطانية الباردة، فقضت معظم طفولتها في دول شمال أفريقيا. وعُرف والدها المسُتكشف البارز «دونمور السابع»، بكثرة أسفاره إلى وجهات بعيدة حول العالم، مثل الصين وكندا وأفريقيا، وكذلك كانت والدتها، التي أصبحت في وقت لاحق وصيفة الملكة فيكتوريا، مولعة بالسفر أيضاً. سافرت السيدة إيفلين مع أسرتها إلى الجزائر، حيث عاشت لمدة 3 سنوات في فيلا ذات طراز فرنسي، مُقامة على تلال تحيط بأطراف العاصمة الجزائرية. وخلال وجودها هناك، تعلّمت اللغة العربية وانجذبت إلى الثقافة الإسلامية بشدة. وعاشت فترة تصفها بـ «الرائعة» في مذكراتها، حيث استمتعت برفقة الأطفال الجزائريين، وتأثرت مبكراً بالبيئة الشرقية، ما دفعها فيما بعد للتوجه صوب دراسات الاستشراق. وكانت كوبولد، معروفة في شبابها بحبها للسفر والترحال واستكشاف العالم. فزارت عدداً كبيراً من الدول الأفريقية، خصوصاً دول الساحل المسلمة، ثم عرجت على الصحراء الليبية، برفقة قافلة يحرسها رجال جزائريون. وكان لها جهود في استكشاف أجزاء من الصحراء الكبرى، وتم تكريمها في «الجمعية الجغرافية الملكية». وفي أثناء رحلة لها مع العائلة إلى القاهرة، التقت مع جون دو بويز كوبولد، الذي أصبح زوجها فيما بعد، وكان رجل أعمال ينتمي لأسرة عريقة من شرق إنجلترا. تزوجا في القاهرة عام 1891، وأقاما في منزل والديها في حي باب اللوق وسط العاصمة المصرية. ثم انتقلا إلى مدينة «سوفولك» بإنجلترا، حيث عاشا زمناً طويلاً. نشرت إيفلين أول كتبها بعنوان «عابر سبيل في الصحراء الليبية» عام 1912، وتحدثت فيه عن رحلاتها الاستكشافية في شمال أفريقيا، والطلعات الجوية التي قامت بها في عمق الصحراء، والتخييم، وعادات سكان الصحراء الكبرى من العرب والأمازيغ. واقعة غريبة في الفاتيكان تحكي المؤلفة في كتابها واقعة غريبة حدثت لها أثناء وجودها في إيطاليا، حين كانت في زيارة عند بعض الأصدقاء الإيطاليين في روما، وسألها والد أحدهم: هل ترغبين في لقاء بابا الفاتيكان شخصياً. تحمَّست للفكرة، وارتدت لباساً أسود، وغطّت شعرها، لتمثل في حضرة رأس الكنيسة الكاثوليكية مع صديقتها وشقيقها. وفجأة سألها البابا: هل أنت كاثوليكية أم بروتستانتية، فارتبكت لحظة ولم تُحر جواباً. غير أنها أجابته قائلة: أنا مُسلمة! لم تكن الليدي «إيفلين» مُسلمة في ذلك الوقت. ولم تستطع أن تفسر لشقيقها وصديقتها، ولا حتى لنفسها، ما الذي دفعها أن تقول هذا للبابا نفسه. غير أنها اعتبرت هذه الإجابة العفوية بمثابة إلهام ربّاني لها، لكي تدرس الإسلام، وتستغرق في دراسات الاستشراق. تحدّت النبيلة البريطانية عصرها وأشهرت إسلامها، رغم أن الإعجاب بالإسلام لم يكن مألوفا بين أبناء الطبقات العليا البريطانية في العصر الفيكتوري، خاصة إذا جاء الإلهام من السفر إلى البلاد المسلمة. غير أن جرأة الليدي إيفلين، بصفتها ابنة عائلة أرستقراطية بريطانية عريقة، كانت محط إعجاب في عصر كان لا يزال الإسلام غريباً على المجتمع البريطاني. وكان من المفهوم التحوّل من اتباع الكاثوليكية الرومانية إلى البروتستانتية، أو العكس، أو التحوّل من المسيحية إلى البوذية، لكن اعتناق الإسلام كان بكل المقاييس شيئاً استثنائياً. وبعد أن أشهرت إسلامها، واختارت لنفسها اسماً جديداً هو «زينب»، كتبت السيدة كوبولد في مذكراتها قائلة: «غالباً ما يسألني الناس: متى ولماذا أصبحت مسلمة؟ الحقيقة أني لا أملك إجابة واضحة، لأني لا أعرف اللحظة الدقيقة التي أشرق فيها إسلامي، يبدو أنني كنت مسلمة على الدوام». عندما بلغت إيفلين السادسة والستين من عمرها، قررت أن تقوم برحلة الحج إلى مكة. وتواصلت لهذا الغرض مع الشيخ حافظ وهبة، سفير السعودية لدى بريطانيا آنذاك، وطلبت منه أن يستأذن لها من الملك عبد العزيز بن سعود، رحمه الله، بالقدوم إلى المملكة لأداء مناسك الحج، وزيارة المسجد النبوي الشريف. غادرت لندن متوجهة إلى القاهرة عام 1933، ومن هناك توجهت إلى السويس ثم إلى بورسعيد، حيث استقلت باخرة إيطالية متجهة إلى جدة في 23 فبراير من نفس العام. وتم حجز غرفتها على متن الباخرة. ومن بورسعيد، أبحرت السفينة إلى مدينة «القصير» المصرية على ساحل البحر الأحمر. وبعد أربعة أيام من السفر عبر البحر، رست السفينة في جدة يوم 26 فبراير/ شباط 1933. وتصف الكاتبة ميناء جدة، في ذلك الوقت، قائلة: أمّا ميناء جدة فإنه عجيبة من عجائب الزمان، وليس هناك مياه بحر تُشابه مياهه في البهاء واللمعان. ولكنه كثير الصخور، كثير الجبال البحرية بحيث كان ربابنة السفن التي ترسو في هذا الميناء لا يتقدّمون من المرفأ إلاّ بمقدار. وكان على الزورق الذي أقلّنا من الباخرة إلى المرفأ، أن يسير ما يُقرب عن ميل واحد، فأخذ سبيله في البحر، وزاد في عجبي ما رأيته من براعة البحار ومهارته، وهو بعد صبي ما أظنه يتجاوز العاشرة من عمره، وكان من الحذق في تسير الزورق بين هذه الصخور، بحيث كان يرى الحفر تحت الماء فيدور حولها، ولا يقع عليها، وكان بارعاً في محاورة الصخور المختفية، حتى أوصلنا إلى المرفأ سالمين. الطريق إلى مكة أمضت المسلمة البريطانية النبيلة عدة أيام في جدة، في انتظار الإذن الملكي، وخرجت تتنزه خارج هذه المدينة العريقة، وتحدّثت عن بعض ما شاهدته في رحلتها: لقد خرجت اليوم بالسيارة إلى خارج المدينة، فكنت أشاهد كثيراً من الحجاج يضربون في الأرض نحو مكة، وأُمنّي نفسي متى يكون لي مثل حظهم. وفي حديثها باللغة العربية مع بعض الحجاج، يتبيّن لها أن هناك أشخاصاً ساروا على أقدامهم من أقصى المغرب، حتى وصلوا خلال سنة كاملة من المشي إلى الأرض المقدسة، مشيرة إلى أن هؤلاء يفضلّون المشي على الأقدام نحو البيت الحرام، يغمرهم الخشوع، وتجللهم التوبة. وبعد أن حصلت أخيراً على الإذن بالحج من القصر الملكي، وبات اسمها الجديد في جواز السفر «زينب كوبولد»، تستكمل الكاتبة رحلتها: مررنا بالمدينة المنورة أولاً، حيث أيقظني صوت أذان الفجر مبكراً. وعبر شباك صغير في اتجاه الجنوب، رأيت في الأفق المآذن الطويلة، وقبة مسجد الرسول (عليه الصلاة السلام) الخضراء، فطربت لفكرة أنني على بعد خطوات من مسجدٍ له هذه المكانة العظيمة في الإسلام. سَرَت رعشة في بدني من هيبة الموقف، وخلعت حذائي، وعبرت العتبة التي اجتازها من قبلي عدد قليل من الرجال الأوروبيين، ولم تطأها قدم أي امرأة أوروبية على الإطلاق. لا يستطيع قلم وصف مثل هذا المشهد الجليل، كما تقول: لقد شعرت بضآلتي وأنا أقف هنا، تعصف بي المشاعر المتضاربة من الهيبة والفرحة. فرد صغير وسط الإنسانية الكبيرة، وتتملكني أحاسيس وعواطف شتى، وحماسة دينية لم أعهدها من قبل. كانت الدموع تبلل وجوه الحجاج من حولي، وتنهمر على خدودهم كالأنهار، بينما رفع غيرهم رؤوسهم في اتجاه السماء التي تزينها النجوم اللامعة، والتي شهدت هذه الجموع الغفيرة عبر قرون متتالية. اهتزت مشاعري ونبض قلبي أمام العيون المتلألئة بالعبرات والأدعية المخلصة الملحَّة، والأيادي الممتدة رجاء العفو والمغفرة، كما لم تفعل من قبل. اعترتني حالة روحانية لم أشهدها سابقاً. كنت واحدة من جموع الحجيج في حالة سامية من التسليم التام لإرادة الله، وهي روح الإسلام وغايته. في ختام رحلتها، تقول المؤلفة: «تكفيني نظرة إلى دفتر مذكراتي، لأدرك أن كل هذا كان حقيقة مطلقة. لن يستطيع الزمان محو الذكريات التي حُفرت في قلبي. ستظل بساتين المدينة وسكينة الجوامع وآلاف المصلين الذين مروا عليّ وأعينهم تفيض من الدمع تبتل خشوعاً، حاضرة في ذهني. لن أنسى أبداً عظمة وجلال المسجد الحرام في مكة، ولن أنسى رحلة الحج في الصحراء قاصدين جبل عرفات. ستحمل روحي للأبد متعة الرضا والسعادة التي غشيتها. لم تحمل لي الأيام السابقة إلاّ الخير، والجمال، والدهشة. لقد اكتشفت عالماً جديداً مذهلاً». توفيت الحاجة «زينب كوبولد» في لندن عام 1963 عن عمر ناهز 95 سنة. ودُفنت في جبال اسكتلندا التي كانت تحبها، بحضور إمام مسجد. وأوصت قبل وفاتها، في وصية مكتوبة، بأن تؤول كل ممتلكاتها إلى عدد من الجمعيات الخيرية، وأن تُنقش على شاهد قبرها الآية الكريمة (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). *صحافي وعضو اتحاد كُتاب مصر.