التاريخ في خطابنا اليومي: هل نستخدمه أم نستهلكه؟

في أحاديثنا اليومية، في نشرات الأخبار، في وسائل التواصل، في المقالات والخطب، كثيرًا ما يُستدعى التاريخ. لكن السؤال الذي يستحق التوقف عنده: هل نستدعي التاريخ بفهم؟ أم نستهلكه بلا وعي؟ هل نستخدمه كأداة للوعي والبناء؟ أم نحوله إلى كلمات جميلة في الوقت المناسب ثم نتركه خلفنا دون أثر؟ لقد أصبح التاريخ – في بعض الأحيان – مجرد زخرفة لغوية أو حيلة خطابية. نقتبس منه ما يخدم موقفًا، أو نلوّنه ليبدو كما نحب، أو نحصره في مناسبات وطنية تُمرَّر ثم تُنسى. لا عيب في الفخر بالتاريخ، بل العيب في اختزاله، وفي تحويله إلى “مادة استهلاكية” تُستدعى متى ما أردنا إثارة مشاعر أو كسب تعاطف، دون أن نفكر فيما يعنيه هذا التاريخ فعليًا لحياتنا اليوم. التاريخ لا يُستدعى فقط في لحظة الانتصار، بل في لحظة السؤال. لحظة البحث عن المعنى. لحظة الوقوف على مفترق طرق نحتاج فيه إلى بوصلة توجهنا. فحين يغيب الوعي، يصبح استدعاء التاريخ مجرد ممارسة شكلية لا تترك أثرًا، لا تُسائل الواقع، ولا تُنير المستقبل. لقد رأينا كيف يوظف البعض التاريخ لتبرير الحاضر، أو لتجميل قرار، أو لتسويق مشروع، دون الرجوع إلى عمق السياق أو عدالة المقارنة. مثل هذه الممارسات تجعل من التاريخ وسيلة للزينة أكثر من كونه أداة للفهم والتحليل. وهنا مكمن الخطر: حين يتحوّل التاريخ من مرآة نرى فيها أنفسنا بوضوح، إلى قناع نرتديه في المناسبات. نحن بحاجة إلى أن نستخدم التاريخ لا أن نستهلكه. أن نقرأه كما هو، لا كما نريد. أن نتعلّم منه، لا أن نجمّله. أن نُحاوره، لا أن نُطوّعه لرغباتنا. وعيُنا التاريخي لا يُقاس بعدد المرات التي نذكر فيها أسماء القادة أو المعارك، بل يُقاس بقدرتنا على فهم السياق، وقراءة التحولات، وتوظيف العِبَر في بناء الحاضر واستشراف الغد. فالتاريخ الحقيقي لا يعيش في الكتب وحدها، بل في طريقة تفكيرنا، وفي مستوى خطابنا، وفي قراراتنا اليومية. أخيراً إذا أردنا لتاريخنا أن يكون حيًا، فعلينا أن نحترمه كما هو، لا كما نُريده. نستخدمه ليرشدنا، لا لنزيِّن به كلامنا. ففي زمن السرعة والتغير، لن يحمينا من التشتت سوى جذورنا. والتاريخ الواعي هو الجذر الأقوى.