تحت ظل شجرة.

في زمننا الراهن، ما زال الإنسان يسير على الأرض، بينما يدور كثير من عالمه في فضاء سيبراني: اهتماماته، أفكاره، مصالحه. هذا الوُجود في الفضاء الرقمي ليس سيئًا في ذاته، بل قَصَّر المسافات، وأسهم في جودة الحياة في جوانب عديدة، لكنه لا ينبغي أن يبعدنا عن متعة التواصل مع الطبيعة التي كنا نعيشها ببساطة. كنّا أطفالًا نبحث عن دفء الشمس شتاءً في أحواش المنازل أو تحت جدران أو سيلان البيوت كما نسميها، بينما نعتمد اليوم على المدافئ والمكيّفات شتاءً وصيفًا. وبالمثل، نضع سماعات في آذاننا، ونستمتع بالتقنيات الحديثة، لكننا ربما لا ننتبه لأصوات العصافير مع أن الأشجار تنتشر حولنا. وأقرّ بأنني جزء من هذا العالم ومتأثّر به، خصوصًا مع تخصّصي في الدراسات العليا في الإعلام الرقمي؛ استخدم التقنية بكثافة، وأتواصل مع ChatGPT صوتًا ونصًّا، وأستفيد من أدوات الذكاء الاصطناعي التي سهّلت عليّ كثيرًا من العمل في التحرير والكتابة والتصميم، وهذا أمر غاية في الجمال. لكنني أحرص دائمًا على استغلال الفرص للخروج إلى البر، والجلوس تحت ظل شجرة كثيفة الأغصان، أضع هاتفي على الصامت، وأطالع الفضاء من حولي: أشجار السمر والسلم والسرح، وجبال تترامى في الأفق، وقطع سحاب تلوّح بعيدًا، وهبوب رياح تتطاير معها بعض الأوراق، وصخور ورمال تختلف طبيعة الأرض فيها من مكان إلى آخر. تلك التفاصيل تشعرك بالحياة، وتمنحك ما لا يمنحه الجلوس الدائم خلف جدران صامتة أمام شاشة ذكية، مهما انفتحت على العالم؛ فهي لحظات تأنس بها النفس، ويصحّ بها العقل والجسد. وهذا ما فعله كثير من الكتّاب عبر العصور ممن كتبوا عن علاقتهم بالطبيعة؛ خذ عالميًا هنري ديفيد ثورو الذي خرج إلى الغابة، وعاش وحيدًا قرب بحيرة والدن ليكتب عن الطبيعة من تجربة مباشرة، فجاء كتابه الشهير “والدن” علامة بارزة في أدب الطبيعة والتأمل. وفي الأدب العربي لا يمكن تجاوز كتابات ميخائيل نعيمة الذي كتب عن الطبيعة بوصفها مرآة للروح، فجاءت نصوصه في كتاب “سبعون” وكتاباته التأملية شاهدة على حضور الجبل والشجر والهواء في تشكيل رؤيته الإنسانية. وفي بلادنا، من فضل الله، ننعم بتضاريس وبيئات متنوّعة قلَّ نظيرها، تؤكّدها مشاهد الطبيعة خصوصًا في مواسم الأمطار. وأحاول كلما سنحت الظروف الخروج إلى البر والتقاط الأنفاس، كي أعود بطاقة أكبر للحياة والعمل والكتابة.