سجلتها « هيئة التراث » في السجل الوطني للتراث العمراني ..

قلعة المعظم بمنطقة تبوك.. ملكة جمال القلاع .

على بعد 130 كيلومترًا جنوب شرق مدينة تبوك تقع قلعة «المعظم» أكبر المحطات على درب الحجاج الشاميين، التي تعد من أهم آثار العصر الإسلامي، وهي جزء من موقع تاريخي يشمل أيضًا بركة المعظم ومحطة لسكة الحديد. تجسد هذه القلعة تفاصيل العمارة الإسلامية وتعكس مدى اهتمام العصور الإسلامية المتأخرة بخدمة قاصدي بيت الله الحرام القادمين عبر طريق الحج الشامي، حيث تم إنشاؤها سنة 1031هـ/ 1622م في عهد السلطان العثماني عثمان الثاني، لتكون محطة يستريح فيها الحجاج والمعتمرون، ومقرًا للثكنات العسكرية التي تقوم على خدمتهم وتأمين طريقهم من وإلى المدينة المنورة ومكة المكرمة. اكتسب موقع المعظم الأثري أهمية فائقة بعد أن أمر الملك (المُعظَّم) شرف الدين عيسى بن الملك عادل بن أيوب، ببناء بركة كبيرة في الموقع، ثم ذاع صيت تلك البركة، وأصبح الموقع كله فيما بعد يحمل اسم بركة المعظم، وبعدها تم بناء القلعة لحماية البركة وطريق الحج. شُيِّدت بركة المعظم في عام 611هـ/1214م، وأعيد ترميمها مرتين، كلتاهما في العهد المملوكي، مما أسهم في بقاء البركة على حالة جيدة حتى بعد توقف نشاطها، وللبركة دَرَج حجريٌّ يمكن النزول به إلى قاعها. وتعد قلعة المعظم من أجمل القلاع بالجزيرة العربية وقد عُرفت تاريخيًا بمسمى “ملكة جمال القلاع”، وهي أكبر القلاع التاريخية التي كانت تستخدم لمراقبة الحجاج وحمايتهم، وتبلغ مساحتها الإجمالية 10000م مربع. وتذكر مصادر تاريخية أن القلعة بنيت لحماية بركة المعظم التي بنيت قبلها في العصر الأيوبي، ولتكون واحة إمداد في الطريق البري بين تبوك ومدينة العلا. أما سبب تسميتها بـ (قلعة المعظم) فهو نسبة للمكان الذي تقع فيه هذه القلعة، وهذا المكان كان يسمى قديمًا بالحاكة ثم تحولت إلى اسم الملك المعظم الأيوبي ابن أخ صلاح الدين، أول من بنى البركة المشهورة بالقرب من القلعة، وهي أكبر بركة باقية على مسار درب الحج الشامي، يبلغ طول ضلعها 60 مترًا مربعة الشكل وهي عبارة عن حوض كبير مبني بالحجر والجص والنورة، يمتلئ بمياه السيول والأمطار، وإلى جانب البركة بئران مطويتان، بالإضافة إلى محطة سكة حديدية مكونة من طابق واحد وخزان ماء. وصف القلعة القلعة مستطيلة الشكل، يوجد بداخلها بئر مطوية بالحجارة، ويوجد بالقرب منها بركة كبيرة يتميز بناؤها بأنه مربع الشكل، إضافة إلى بئرين مطويتين، كما تشتمل على ثلاثة مباني للسكة الحديدية شيدت من الحجر المشذب، إلى جانب وجود خزان علوي للماء. وفي وسطها ساحة متسعة، وحولها الغرف والأدراج والممرات العلوية المحيطة بها، وتختزن حيطانها التي بنيت بشكل مستطيل ذكريات تمتد لأكثر من أربعة قرون. وللقلعة أربعة أبراج دائرية مقامة في أركانها الأربعة، ولها مدخل واحد، حيث اُستخدم في بنائها “الحجارة المهذبة” بشكل منتظم بارتفاع طابقين ويعلوهما سور حماية بارتفاع الممر الداخلي، وتخلو واجهاتها الأربع من النوافذ إلا فتحات صغيرة تمثل الطلاقات التي استخدمت للحماية، وتشمل بركة المعظم ومحطة سكة حديد الحجاز، وهي قلعة محكمة البناء مبنية بالحجر المنحوت الأصفر المائل للحمرة، حيث يوجد على واجهة هذه القلعة أربعة نقوش تأسيسية لبنائها. كما تضم قلعة المعظم، مدخلًا كبيرًا ومميزًا، إذ يعلوه قوس يخفي خلفه فتحات للحماية، وعلى جانبيه مقاعد حجرية، ويليه فتحة باب مستطيلة الشكل يعلوها نقش حجري، وعلى جانبي المدخل نقشان حجريان، نقش على أحدهما كتابة إسلامية، وعلى جانبي كتفي المدخل نقشان لصورة أسد، كما يعلو المدخل الرئيس بناء حجري قائم على خمسة أحجار بارزة عن حد الواجهة الأمامية، وفيه شباك صغير مستطيل الشكل يعلوه شكل مثلثي، واستدل من أحد النقوش على اسم المُعلم الذي بنى القلعة وهو علي بن محمد المعمار باشي بدمشق الشام. ذكر القلعة في كتب الرحالة أول من زار المعظم من المؤرخين المدونين بعد بناء القلعة كان الكبريتي الحسيني سنة 1040هـ (1631م) فقد قال: “المعظم وادٍ فيه قلعة عثمانية عمرت سنة 1031هـ، وذكر الكبريتي أن بركتها لم يكن بها ماء وأن القلعة مهملة وأشرفت على الدمار. ومرّ بها الخياري سنة 1080هـ (1671م)، ووصفها وصف خبير معماري بقوله: “وهي قلعة محكمة البناء مبنية بالحجر المنحوت الأصفر المائل للحمرة بحيث يشبه الحجر الشميسي، وهي أحجار يبني بها أهل مكة دورهم سائر بنائها من ذلك الحجر، وهي مشتملة على خمس أوض سفلية ومثلها فوقها أو أزيد، وفي كل أيوان محكم العقد بالحجارة، وللطبقة الثانية درجة من الحجر المنحوت، ودرجة أخرى توصل إلى علو الطبقة الثانية، بحيث أن من صعد ذلك رأى الوادي جميعه ومحط الحاج وأحاط بما هنالك”. وكان الخياري شاهدًا على مأساة القلعة التي لم يمض على بنائها 50 سنة فقال: “ولم يكن لباب القلعة ولا لغرفها أبواب للغلق وأظنها كانت فأزيلت. وعلى الباب حجران مكتوبان في أحدهما (لا إله إلا الله) وفي الآخر أبيات بالتركية يقال إنها تاريخ البناء، وعلى جانبي الكتفين صورة أسد من نفس الحجارة..” إلى أن ذكر أنه لا ماء في تلك القلعة وما حولها: “وبجانب القلعة برّكة مربعة منسقة النواحي والأطراف، لم تر عيني قبلها في الكبر مثلها، وربما يبلغ طولها وعرضها مئة ذراع بذراع العمل تخمينًا وحدسًا. وهي مبنية بالحجر من جنس ما بنيت به القلعة من لونه وكونه منحوتًا، وهي في الأرض بحيث إذا سال الوادي امتلأت فانتفع بها الحاج، وإلى جانبها علمان مرتفعان نحو سبعة أذرع مربعان مبنيان بالحجارة، بأعلاهما كوة تشبه المشكاة لكونها غير نافذة ليهتدي بها المارون لذلك المورد”. ومر بها أوليا جلبي (أحد وجهاء العثمانيين) في عام 1081هـ (1672م) ولم يعجبه حالها بعد أن هجرت وأهملت حيث قال: “كان يجب وضع جنود في هذه القلعة لتأمين سبل الحياة في هذه المنطقة”، وكتب محمد الحسيني الموسوي في كتابه (رحلة الشتاء والصيف): “ثم أتينا على المعظم وهو واد فيه قلعة عثمانية، عمرت سنة 1031هـ غير أنه لم يكن بني بها ماء وقد أشرف على الدمار، وفيه يقول بعضهم: يا ذا المعظم إن فيك لقسوة فلأي معنى قد سميت معظمــا؟ إن المعظم مـن يغيـث وفـوده وأراك أفنيت الأنـام مـن الظـمـا وعند القلعة بركة عظيمة متسعة جدًا، يأتيها الماء من الأمطار ولها خمس وعشرون درجة، ولما وردناها وجدنا منها خمسة عشرة درجة في الماء الفرات”. وقال عنها النابلسي عام 1134هـ: “فوصلنا إلى قلعة المعظم بصيغة اسم المفعول، وهي قلعة خراب لا يسكنها أحد من عسكر الشام ولا غيرهم، وكان لها جماعة من عسكر الشام سابقًا ينظرون فيها، فنقب الأعراب عليهم حايطها، ودخلوا عليهم فقتلوهم، فتركوها ولم يسكنها أحد بعد ذلك.... وهناك بئر ماء فيـه مـاء كثير”. وقد قال الأستاذ الدكتور مسعد بن عيد العطوي في كتابه (تبوك قديمًا وحديثًا) عن رحلة النابلسي إلى المعظم: “وتستنبط من رحلة النابلسي هذه أن الحاج لم يتعرض لأي اعتداء من القبائل المحيطة بتبوك، وأن المعظم مملوء بالماء، وإن غابات كثيفة من (الطلح) شجر الغيلان كانت تكسو تلك الأودية، وأن قلعة المعظم كانت موجودة قبل الحكم العثماني، لكن يبدو أن العثمانيين قاموا بإصلاحات فيها لتشابه البناء مع القلاع العثمانية المتناثرة في المنطقة والتي تم عمرانها في عام 1324هـ، كما هو مدون على قلعة الأثيلي التي تقع على الطريق للمعظم من تبوك. وبركة المعظم ما زالت محتفظة بشكلها العام وهي أشبه بسد صغير غير أن الطمر من الأتربة أخذ يتكاثر فيها، وطريق الحاج انحرفت عنها لأن الدرب البري المعبد اتخذ مسارًا شرقيًا ليمر بتيماء”. ثم مر بها المكناسي عام 1201هـ (1787م) الذي كتب عنها قائلًا: “ولم ينزل الركب بالمعظم كالعادة لأنه لم يكن فيها ماء، فمروا بقلعتها عصرًا ولم يقفوا خشية العطش، وتمادوا يسيرون بقية النهار والليل كله حتى نزلوا بعد طلوع الشمس بساعة على الدار الحمراء”. كما مر بها داوتي بعد 93 سنة من رحلة المكناسي أي عام 1294هـ (1877م) وكتب: “بركة المعظم جانبها قلعة مهجورة. كانت القلعة هي الأجمل والأعظم على طول الطريق. كانت البركة خربة وليس بها ماء، لهذا انطلقنا غير متوقفين، حيث كان الأمل الوحيد هو بركة الدار الحمراء. هذه المنطقة إلى الحجر قليلة الإمطار وفي مدائن صالح لم تمطر في خلال 3 سنوات إلا مرة أو مرتين”. وقد زارها الرحالة والمستكشف الألماني يوليوس أويتنج عام 1301هـ -1884م برفقة الرحالة الفرنسي هوبر، ووثق هذه الرحلة في كتابه “رحلة داخل الجزيرة العربية”، وكان حال القلعة قد تحسن كثيرًا إثر أعمال ترميم، حيث وجد بها حارس مغربي، كتب عنه قائلًا: “وبينما كنا نسير وسط التلال الخالية من النباتات، وصلنا أعلى قمة في الطريق أتاحت لنا رؤية منظر جميل، فخلال ذلك الشعيب المملوء بحبات الرمل يمكن للمرء مشاهدة السهل الذي تتوسطه قلعة المعظم ببركتها، وإلى جانبها شجرة الطلح الوحيدة، وبعد نصف ساعة وصلنا القلعة، واحتمينا خلف سورها المعاكس لاتجاه العاصفة القوية، أما الجمال فقد سقناها بصعوبة عبر الدرج المرتفع إلى الفناء”، ثم أضاف: “رحب بنا قائد القلعة - التي لم يكن بها حامية - المدعو سي محمد أبو عمرو الشرقاوي، وهو رجل كهل لطيف من فاس أحضره عبد القادر الجيلاني إلى هنا، وكانت له زوجان وابنان وبرفقته صهره ورجل آخر يدعى أحمد قدم لنا القهوة والتمر، وفي المساء قدم لنا الأرز”. تسجيلها ضمن التراث العمراني سجلت هيئة التراث قلعة المعظم وبركة المعظم في السجل الوطني للتراث العمراني عام 2022، ضمن جهودها الحثيثة التي تهدف إلى أرشفة ورقمنة المواقع التراثية على مستوى مناطق المملكة، من أجل احتوائها في سجل رقمي حديث يخدم التراث الحضاري للمملكة . وتكمن مهمة السجل الوطني التراث العمراني في توثيق المواقع التراثية وتسجيلها وتصنيفها حسب نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني ولوائحه التنفيذية، وإسقاطها على خرائط رقمية تمكِّن من تسهيل إدارتها وحمايتها والمحافظة عليها، وبناء قاعدة بيانات مكانية للمواقع التراثية المسجلة، وحفظ وتوثيق الأعمال التي تجري فيها، وأرشفة وثائق وصور مواقع التراث الثقافي، إضافةً إلى إيجاد حلول تطبيقية لإدارة أعمال قطاع التراث الوطني، وتوفير المعلومات المساندة التي تعين على اتخاذ قرارات حفظ وصيانة المواقع التراثية، وإتاحة المعلومات للباحثين والمختصين للاطلاع عليها بيسرٍ وسهولة.