بونداي بيتش..

الإنسان في مواجهة الكراهية.

الحادثة الإرهابية التي شهدتها سيدني في مساء يوم الأحد الماضي 14 ديسمبر 2025 حولت شاطئ بونداي بيتش من رمز سياحي وثقافي وشاطئ يرمز لبهجة سيدني وسياحتها إلى مرآة قاسية تسأل الأستراليين: ما الذي يحدث للنسيج الاجتماعي حين ينجح العنف الأيديولوجي في اختراق الحياة اليومية؟ الهجوم الذي استهدف فعالية “حانوكا على الشاطئ” بمناسبة عيد الأنوار اليهودي، بعد أن تركت الحادثة قتلى وجرحى، وفتحت باباً واسعاً للأسئلة حول التطرف والإرهاب والكراهية في المجتمع، وحدود الخطاب العام في زمن الاستقطاب. ردّ رئيس الوزراء أنتوني ألبانيزي جاء حاداً في توصيفه؛ إذ وصفه بأنه “هجوم شرير” واستهداف متعمّد للجالية اليهودية، وتعهد بأن تقف الدولة والمجتمع معها، وأن “يُستأصل” هذا النوع من الكراهية. وفي مؤتمراته الصحافية تحدث عن إحاطات استخباراتية واجتماعات للجنة الأمن القومي، مؤكداً أن الرد ليس عاطفياً فحسب، بل مؤسسيّ أيضاً. لكن المشكلة ليست في الإدانة، بل في ما بعدها. جزء من السجال الأسترالي ركّز على “كيف حدث ذلك” في بلدٍ يفخر تاريخياً بتشدد قوانين السلاح، حتى طُرحت وعود بتشديد إضافي على الترخيص والرقابة. هنا تنقسم الآراء: هل تكفي مقاربة الأدوات (السلاح والرقابة) إذا كانت المشكلة أعمق وتتعلق بالتحريض والتطرف وتآكل الثقة الاجتماعية؟ أم أن أي ثغرة -حتى في منظومة صارمة- تستحق إصلاحاً فورياً لأن الأرواح لا تُعوَّض والسلم الاجتماعي لا يحتمل الكراهية والتحريض؟ الصحافة الأسترالية في أيام ما بعد الهجوم لم تتعامل معه كخبرٍ جنائي فقط، بل كحدثٍ يختبر “فكرة أستراليا” نفسها: بلد الهجرة والتعددية والحياد الاجتماعي. بعض مقالات الرأي ركّزت على شعورٍ متزايد لدى يهود أستراليا بأن الأمان لم يعد مضموناً، وأن الكراهية يمكن أن تُطبّع تدريجياً حتى تصبح ضجيجاً معتادا في الخلفية. وفي المقابل، حذّرت تحليلات أخرى من “القصص الزائفة” التي تنتشر بعد الصدمات عبر الذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل، لأن التضليل لا يقل خطراً عن الرصاصة: إنه يسرق الحقيقة من الضحايا، ويعيد توجيه الغضب نحو أبرياء، ويحوّل المجتمع إلى قاعات محاكمة رقمية. اللافت أيضاً أن مشاهد التضامن—الوقفات، التبرعات، الاصطفاف للتبرع بالدم، ورمزية احتضان القيادات الدينية لبعضها—كانت بمثابة “مناعة مجتمعية” في وجه هدف الإرهاب الأساسي: تفكيك المجتمع من الداخل. حادثة بونداي بيتش لم تكن مجرد اختباراً لأجهزة الأمن وحدها، بل لاختيارات المجتمع. مكافحة التطرف لا تعني توسيع الاشتباه على جماعاتٍ كاملة، بل تضييق الخناق على مسارات التحريض والتجنيد والتمويل، وتحصين المدارس والإعلام والمنصات من خطاب الكراهية، وبناء ثقة المجتمع ببعضه البعض. وبين تشديد القوانين ومواجهة الأفكار، يبقى المعيار الأخلاقي واحداً: أن لا يُترك الألم وحيداً، ولا تُترك الحقيقة رهينة للصراخ. وُصِف الهجوم بأنه عمل إرهابي متطرّف ذو دوافع معادية للسامية، وقد أثار بالفعل صدمة واسعة داخل المجتمع الأسترالي وخارجه. وأظهرت التحقيقات الأولية أن منفذي الهجوم كانا أباً وابنه، ينشرت وسائل الإعلام أن أصولهما من باكستان، وقد سافرا مؤخراً إلى الفلبين قبل تنفيذ الهجوم، ووجدت في مركبتهم أعلامًا ورموزاً مرتبطة بما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، مما عزز فرضية الدافع الإسلامي المتطرف المعادي للسامية. وسط هذه الأحداث، برز اسم أحمد الأحمد كقصة إنسانية مؤثرة تُذكّرنا بقوة الروح المدنية والتضامن بين المجتمعات. أحمد، رجلٌ مسلم من أصول سورية يقيم في سيدني ويعمل مالك محل فواكه، لم يتردد للحظة عندما رأى إطلاق النار على المحتفلين الأبرياء في بونداي. رغم أنه لم يكن مسلحًا ولا يمتلك خبرة قتالية، اندفع نحو أحد المسلحين، شنّق عليه وقام بتجريده من سلاحه، مما أوقف مزيداً من القتل والإصابات في تلك اللحظات الحرجة. أصيب أحمد نفسه بخمس طلقات أثناء محاولته البطولية ونقل إلى المستشفى وهو يخضع للعلاج، لكن فعله هذا يُنسب إليه بأنه أنقذ العديد من الأرواح. تصريحات ألبانيزي وغيره من القادة الأستراليين أشادوا ببطولة أحمد الأحمد، مؤكدين أن أفعاله تجسد “أفضل ما في المجتمع الأسترالي” وتُظهر أن الإنسانية يمكن أن تتغلّب على الظلام حين تتضافر قوى المجتمع بكل أطيافه في مواجهة العنف والتطرّف. إن إشادة الجميع بشجاعته تذكير بأن الإنسانية لا تُقاس بالدين أو الأصل، بل بالأفعال التي توحّدنا أمام الشرّ والكراهية. هذه الحادثة تضع أستراليا أمام وقائع مؤلمة لكنها تعيد التذكير بأهمية تعزيز الوحدة الوطنية في الوقت نفسه. فهي تُبرز مدى الخطورة المتزايدة لخطابات الكراهية والتطرّف في وقت تشهد فيه المجتمعات الغربية توترات اجتماعية وسياسية متصاعدة. وفي أستراليا، التي لديها قوانين صارمة بشأن السلاح مقارنة بالكثير من الدول، أثار هذا الاعتداء نقاشًا عامًا حول كيف يمكن أن يكون هناك ثغرات في منظومة الأمن والمراقبة، وضرورة التفكير المتعمّق في السياسات المتعلقة بمراقبة التطرّف، تعزيز الكفاءة الاستخباراتية، ودعم الجهود المجتمعية لمنع العنف قبل أن يتحوّل إلى مأساة. *نيو سوث ويلز، أستراليا