أثناء تتبّعي للأدبيات التي تبحث في تفكك المجتمعات الحديثة وانهيار بنى الأمن السياسي، وقعت على دراسة نُشرت في سبتمبر 2025 في مجلة الاستراتيجية العسكرية (Military Strategy Magazine) دفعتني إلى كتابة هذه المقالة. الدراسة، التي حملت عنوان “تأملات في انعدام الأمن الداخلي: التشريح الاستراتيجي للحروب الأهلية المقبلة”، كتبها البروفيسور ديفيد بيتز من قسم دراسات الحرب في كينغز كوليدج لندن، والبروفيسور إم. إل. آر. سميث من مركز الدفاع والأمن القومي في أستراليا. وهذه الدراسة ليست ورقة بحثية أكاديمية عادية؛ بل ورقة تحذيرية تحمل في طياتها إعلاناً عن نهاية حقبة استمرت طويلاً، وتحذيراً من بداية أخرى مظلمة. الفرضية المركزية للدراسة صادمة في بساطتها: إن المجتمعات الغربية، وخصوصاً الأوروبية منها، لم تعد تمر بمجرد أزمة سياسية عابرة، بل دخلت فعلياً في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، وأن هذا المسار يتجاوز قدرة السياسات التقليدية على احتوائه. وما يجعل هذه الدراسة مهمة بالنسبة للقارئ العربي ليس فقط محتواها الصادم، بل كونها تأتي من داخل المؤسسة الأكاديمية الغربية نفسها، من باحثين متخصصين في النظرية الاستراتيجية ودراسات الحرب، وليس من الخطاب الشعبوي أو الإعلام التحريضي. وهو اعتراف ضمني من المؤسسات الأكاديمية الغربية بأن ما تغاضت عنه طويلاً في بحوثها لصالح التركيز على أزمات الشرق الأوسط بات اليوم يتقدّم إلى قلب المشهد السياسي والاجتماعي داخل الغرب نفسه. تبدأ الدراسة بتفكيك مفهوم أساسي لطالما اعتبرناه بديهياً في النظم الديمقراطية: الشرعية السياسية. في النظرية السياسية الكلاسيكية، الشرعية هي ذلك السحر الخفي الذي يجعل المواطنين يمتثلون للقانون طواعية، دون اللجوء الدائم إلى القوة والإكراه. وتقوم في جوهرها على عقد غير مكتوب يربط الحاكم بالمحكوم، ويستند إلى مبدأ بسيط صاغه توماس هوبز في القرن السابع عشر: الدولة توفر الحماية، والمواطنون يقدمون الطاعة. فحينما تنجح الدولة في توفير الأمن والاستقرار والرخاء، فإن شرعيتها تتعزز، وحينما تفشل، تبدأ بالتآكل. لكن ما يحدث في أوروبا اليوم، بحسب الدراسة، يتجاوز مجرد التآكل البطيء؛ فهو انهيار كامل وعلني للشرعية، حدث على مرأى ومسمع من الجميع، وبمشاركة فاعلة من النخب الحاكمة نفسها. وتقدم الحالة البريطانية المثال الأوضح: ففي يونيو 2016، صوّت البريطانيون في استفتاء تاريخي لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، في تعبير واضح عن رفض نموذج العولمة والذوبان في كيان فوق وطني. لكن ما تلا ذلك لم يكن تنفيذاً للإرادة الشعبية، بل كان مسرحية طويلة من التسويف والمناورات البرلمانية والقضائية والإعلامية، هدفها الوحيد كان تعطيل أو تخفيف النتيجة. البرلمان البريطاني، الذي يُفترض أنه يمثل الشعب، تحول إلى أكبر عائق أمام تنفيذ ما اختاره الشعب. القضاء تدخل بطرق غير مسبوقة لتقييد صلاحيات الحكومة المنتخبة. والإعلام، بشقيه اليميني واليساري، انخرط في حملة ممنهجة لتصوير الناخبين المؤيدين للخروج بأنهم جهلة أو عنصريون أو ضحايا لـلدعاية روسية. ما حدث في بريطانيا لم يكن استثناءً، بل هو قاعدة أوروبية؛ ففي كل مرة رفضت فيها شعوب أوروبية مشاريع التكامل الأوروبي (الدنمارك، إيرلندا، فرنسا، هولندا)، كانت النخب الأوروبية تعيد الاستفتاء، أو تتجاهل النتيجة، أو تعيد صياغة المعاهدة بشكل لا يتطلب موافقة الشعوب. الرسالة التي وصلت إلى الملايين كانت بسيطة وقاتلة: صوتك لا يهم، ديمقراطيتك مجرد واجهة، والقرارات الحقيقية تُتخذ في أماكن أخرى لا تصل إليها يدك. هذا الانهيار في الشرعية لا يمكن إصلاحه بسهولة، لأنه ليس مجرد خطأ سياسي، بل هو كشف لحقيقة بنيوية: النخب الغربية لم تعد تؤمن بالديمقراطية كآلية لاتخاذ القرار، بل تراها عبئاً يجب إدارته وتحييده. في هذا السياق، تصبح السياسة مسرحاً كما تصفها الدراسة، حيث يُسمح للناس بالتصويت، لكن النتائج مكتوبة سلفاً، والسيناريو لا يتغير مهما كانت رغبة الجمهور. وحينما يدرك المواطن العادي أن الديمقراطية لم تعد تعمل، وأن صوته لا قيمة له، فإن خياراته تضيق بشكل خطير. إما الاستسلام والانسحاب الصامت من الحياة السياسية، أو اللجوء إلى أشكال أخرى من التعبير، وهنا يبدأ العنف في الظهور كخيار عقلاني بالنسبة لمن فقدوا الأمل في التغيير السلمي. هذا هو جوهر الأزمة: حينما تُغلق أبواب السياسة، تُفتح نوافذ العنف. لكن الأزمة ليست مجرد أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم؛ فهي أزمة هوية وجودية أعمق. وهنا يدخل المؤلفان في تشريح ما يسميانه حروب الفلاحين الجديدة. المصطلح مستعار من التاريخ الأوروبي، حيث كانت ثورات الفلاحين في القرون الوسطى وبداية العصر الحديث تندلع حينما تنتهك النخب الإقطاعية العقد الاجتماعي الضمني الذي يحكم العلاقة بين السيد والقن. واليوم، تتكرر الديناميكية نفسها، لكن في سياق مختلف تماماً. الصراع لم يعد بين طبقات اقتصادية (برجوازية وبروليتاريا)، ولا بين أيديولوجيات متضادة (شيوعية ورأسمالية)، بل هو صراع بين رؤيتين متعارضتين للانتماء نفسه. على أحد طرفي هذا الصراع نجد ما يسميه عالم الاجتماع البريطاني ديفيد غودهارت الناس المتجذرين في المكان أو السكان الأصليين (The Somewheres)، وهم الأغلبية الصامتة التي تعرّف نفسها من خلال انتمائها لوطن، ولغة، ولتاريخ مشترك، ولطريقة حياة موروثة. وهؤلاء يعيشون في نفس المدن والقرى التي عاش فيها آباؤهم وأجدادهم، ويرون في الوطن ليس مجرد مكان إقامة بل امتداداً لهويتهم. على الطرف الآخر، تقف النخب المعولمة أو الناس الذين ينتمون لأي مكان (The Anywheres)، وهم الطبقة المتعلمة، المتنقلة، المرتبطة بالاقتصاد العالمي أكثر من ارتباطها بأي جغرافيا محددة. هؤلاء يعملون في الشركات متعددة الجنسيات، ويعيشون في العواصم الكبرى، ويتحدثون نفس اللغة الكونية (الإنجليزية)، ويتبنون نفس القيم الليبرالية-الكوزموبوليتية. وبالنسبة لهم، الوطنية مفهوم قديم ومشبوه، والحدود عوائق بيروقراطية، والهوية الثقافية المحلية مجرد فلكلور لا يجب أن يعيق حركة رأس المال والعمالة. الصدام بين هاتين الرؤيتين ليس مجرد خلاف فكري؛ فهو صراع على السلطة وعلى تعريف الأمة نفسها. حينما يصرح مسؤول بريطاني كبير، مثل أمين مجلس الوزراء السابق غاس أودونيل، بأن دوره هو تعظيم الرفاه العالمي، لا الرفاه الوطني، فإنه يكشف عن فجوة هائلة بين النخبة والشعب. بالنسبة للمواطن العادي، الذي يعاني من تجميد الأجور، وارتفاع الإيجارات، وتدهور الخدمات العامة، فإن سماع مسؤول يقول إن مصلحة بلده ليست أولويته هو بمثابة إعلان صريح عن الخيانة. وحينما تُفرض سياسات هجرة واسعة النطاق، دون استشارة الشعب ودون حتى السماح بنقاش عام حر حول تبعاتها، فإن الشعور بـالانتزاع يتعمق. الانتزاع هنا ليس مجرد شعور نفسي؛ إنه واقع مُعاش. حينما يرى المواطن البريطاني أو الفرنسي أو السويدي أن حيّه الذي نشأ فيه لم يعد يشبهه، وأن أطفاله أصبحوا أقلية في مدارسهم، وأن لغته الأم تتراجع أمام لغات أخرى في الشوارع والمحلات، فإنه يشعر بأنه فقد بلده دون أن يُستشار، ودون أن يُمنح حتى الحق في الاعتراض. هنا تدخل الدراسة في تفصيل المحرك الثاني للصراع: المسألة الإثنية-الديموغرافية، أو ما يمكن تسميته البُعد الأفقي للحرب المقبلة. إلى جانب الصراع العمودي بين النخب والشعوب، هناك صراع أفقي يتشكل بين السكان الأصليين والجماعات المهاجرة، وتحديداً تلك التي فشلت أو رفضت الاندماج في النسيج الاجتماعي والثقافي للبلدان المضيفة. الدراسة لا تتحدث عن الهجرة بشكل عام، بل تركز على نمط معين من الهجرة الجماعية غير المنضبطة، التي خلقت جيوباً سكانية كثيفة، منعزلة، ومتمايزة ثقافياً ودينياً ولغوياً عن المجتمع المحيط. المؤلفان يستشهدان بتصريحات قادة أوروبيين كبار، مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي أعلنت في عام 2010 أن “التعددية الثقافية في ألمانيا فشلت فشلاً ذريعاً”، ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي كرر نفس التشخيص بعد أشهر قليلة، محذراً من “المجتمعات الموازية” تعيش على أراضي بريطانيا لكنها لا تشارك في حياتها. حتى رئيس الوزراء البريطاني الحالي كير ستارمر، من حزب العمال اليساري، سبق أن حذر في خطاب (تراجع عنه لاحقاً) من تحول بريطانيا إلى “جزيرة من الغرباء”. هذه ليست تصريحات سياسيين يمينيين متطرفين، بل هي اعترافات من قلب المؤسسة السياسية الحاكمة، تؤكد أن التجربة قد فشلت، لكن دون أن تتبعها سياسات جادة لتصحيح المسار. النتيجة هي ما تصفه الدراسة بـالجغرافيا الصراعية الجديدة، حيث لم تعد الدولة الوطنية كياناً متجانساً، بل أصبحت فسيفساء من مناطق متصارعة، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع. المنطقة الأولى (Zone A) هي الجيوب الحضرية ذات الكثافة السكانية المهاجرة العالية، وهي في الغالب غير متصلة جغرافياً، ولكنها متماسكة اجتماعياً ودينياً. هذه المناطق تعاني من ضعف سيطرة الدولة، وارتفاع معدلات الجريمة، وحضور قوي لشبكات موازية (عصابات، جماعات دينية متشددة، اقتصاد غير رسمي). في فرنسا، تُعرف هذه المناطق رسمياً باسم المناطق الحضرية الحساسة (Zones Urbaines Sensibles)، وهي أحياء بأكملها في ضواحي باريس وليون ومرسيليا، حيث الشرطة تدخل بحذر شديد، والخدمات العامة تكاد تكون غائبة. في بريطانيا، هناك أحياء في مدن مثل برادفورد وبرمنغهام ولوتون باتت تُعرف بأنها مناطق يُحذر من الذهاب إليها (No-go Zones) بالنسبة للبريطانيين البيض، أو حتى بالنسبة للشرطة في بعض الأحيان. المنطقة الثانية (Zone B) هي المناطق المختلطة، وخصوصاً العواصم الكبرى، حيث تتداخل الفئات السكانية المختلفة، وحيث ستكون أعنف المواجهات. لندن وباريس وبرلين هي أمثلة واضحة؛ هذه المدن لم تعد بريطانية أو فرنسية أو ألمانية بالمعنى التقليدي، بل أصبحت مدناً عالمية، يعيش فيها الأصليون كأقلية متناقصة، بينما تسيطر على اقتصادها وثقافتها نخب معولمة وجاليات مهاجرة متنوعة. المنطقة الثالثة (Zone C) هي الأرياف والمدن الصغيرة والمناطق الساحلية، حيث لا يزال السكان الأصليون يشكلون أغلبية ساحقة. هذه المناطق هي التي صوتت بكثافة لصالح بريكست في بريطانيا، ولصالح التجمع الوطني في فرنسا، ولصالح البديل من أجل ألمانيا في ألمانيا. وهي قواعد المقاومة المحتملة، وهي الأماكن التي ستنطلق منها موجات التمرد المضاد حينما تندلع الأزمة فعلياً. هذا التقسيم الجغرافي ليس مجرد وصف سوسيولوجي؛ بل خارطة حرب. في أي صراع مستقبلي، ستتحول هذه المناطق إلى جبهات متمايزة، ولن تكون المعركة بين جيوش نظامية، بل بين ميليشيات، وعصابات، ومجموعات دفاع ذاتي. السلاح الأكثر فتكاً في هذه الحرب لن يكون الدبابات أو الطائرات، بل البنية التحتية. المدن الكبرى تعتمد كلياً على سلاسل إمداد خارجية؛ الكهرباء، والماء، والغذاء، والوقود، كلها تأتي من خارج المدينة، عبر طرق وشبكات يسهل قطعها أو تعطيلها. في أي حرب أهلية حديثة، سيكون حصار المدن أسهل بكثير من اقتحامها. الأرياف، التي تسيطر على الموارد والطرق، يمكنها ببساطة أن تجوّع المدن، أو أن تقطع عنها الكهرباء، لتركعها دون إطلاق رصاصة واحدة. هذا السيناريو ليس خيالياً؛ تجربة يوغوسلافيا في التسعينيات أثبتت كيف يمكن لمجتمع متعدد الإثنيات أن ينهار بسرعة مذهلة، وكيف أن المدن (مثل سراييفو) يمكن أن تتحول إلى سجون مفتوحة، محاصرة من قبل ميليشيات ريفية. وتحذر الدراسة من أن المدن الأوروبية الكبرى قد تتحول إلى ما تسميه الأدبيات العسكرية الأمريكية المدن المتوحشة (Feral Cities)، على غرار مقديشو في الصومال، حيث تغيب سلطة الدولة المركزية، وتسود الفوضى المنظمة، وتحكم العصابات والميليشيات المحلية. لكن من سيقود هذا الصراع؟ هنا تأتي واحدة من أخطر ملاحظات الدراسة: أن الحرب المقبلة ستكون حرباً بلا قيادة. في الحروب الأهلية التقليدية، كان هناك دائماً قادة واضحون، وجيوش منظمة، وبرامج سياسية معلنة. هذا ما جعل من الممكن التفاوض، أو الوساطة، أو حتى شراء ذمم القادة لإنهاء الصراع. لكن ما نراه اليوم في أوروبا هو نمط جديد من التمرد، لا يعتمد على تنظيم هرمي، بل على حالة ذهنية منتشرة، تحركها سردية مشتركة، وتنسقها وسائل التواصل الاجتماعي. حركة السترات الصفراء في فرنسا، واحتجاجات المزارعين في هولندا، وأعمال الشغب في بريطانيا بعد حادثة ساوثبورت، كلها أمثلة على هذا النمط الجديد. لا أحد يعرف من يقود هذه الحركات، لأنه ببساطة لا يوجد قائد. تنفجر الاحتجاجات فجأة، على إثر حادثة معينة (جريمة، أو قرار حكومي، أو فيديو تحريضي)، وتنتشر بسرعة البرق عبر الشبكات الرقمية، ويتجمع آلاف الأشخاص في الشوارع دون أن يكون هناك منظم واحد يمكن للدولة أن تعتقله أو تفاوضه. هذا النمط من التمرد الريزومي (على غرار جذور النباتات المتشابكة التي تنمو أفقياً تحت الأرض)، أثبت فعاليته في إرباك الدول الأمنية المعاصرة، لأن كل أدوات القمع التقليدية صُممت لمحاربة تنظيمات هرمية، لا لمواجهة غضب سائل لا شكل له ولا رأس. ما يجعل هذا النمط أكثر خطورة هو أنه لا يحتاج إلى “تعليمات” أو “أوامر” من قيادة مركزية. كل ما يحتاجه هو “سردية” قوية ومقنعة، تفسر الواقع وتحدد العدو وتقترح مساراً للفعل. في أوروبا اليوم، هناك سردية واضحة ومنتشرة على نطاق واسع، تقول ببساطة: نحن نُستبدل. هذه السردية، التي كانت منذ سنوات قليلة تُوصف بأنها نظرية مؤامرة يمينية متطرفة، باتت الآن حاضرة في الخطاب العام، حتى لو بصيغة ملطفة. حينما يرى المواطن الأوروبي العادي أن نسبة المواليد من أصول مهاجرة في العواصم الكبرى تفوق نسبة المواليد من أصول أوروبية، وحينما يقرأ التقارير الديموغرافية التي تتوقع أن يصبح الأوروبيون الأصليون أقلية في بلدانهم خلال جيل أو جيلين، وحينما يرى أن هذه التحولات فُرضت عليه دون رضاه، بل وفي مواجهة معارضته الصريحة في الانتخابات والاستفتاءات، فإن الشعور بالاستبدال المتعمد يصبح منطقياً بالنسبة له، سواء اتفقنا مع هذا التفسير أم لا. والسردية حينما تترسخ، تصبح حقيقة اجتماعية، لأن الناس يتصرفون بناءً عليها. هذا هو الخطر الأكبر: حينما يؤمن ملايين الناس بأنهم في حالة دفاع وجودي عن بقائهم، فإن العنف يصبح، في نظرهم، ليس جريمة، بل واجباً. لكن لماذا لا تستطيع الدول الغربية ببساطة أن تقمع هذه الاضطرابات؟ لماذا لا تستخدم قوتها الأمنية الهائلة لفرض النظام؟ الدراسة تجيب بأن الدول الغربية اليوم باتت هشة بشكل مفاجئ، رغم كل ما تملكه من تقنيات مراقبة وقوة أمنية. الهشاشة تأتي من مصدرين: الأول هو أزمة الموارد البشرية، حيث أن أعداد الشرطة في تراجع مستمر منذ سنوات بسبب سياسات التقشف، والتدريب المتدهور، والروح المعنوية المنخفضة، خصوصاً بعد سنوات من الهجوم الإعلامي على الشرطة ووصمها بالعنصرية. في بريطانيا مثلاً، استغرق الأمر أسبوعاً كاملاً لقمع أعمال الشغب في لندن عام 2011، رغم أنها كانت محدودة جغرافياً ودون أي تنسيق. اليوم، إذا اندلعت أعمال شغب متزامنة في عشر مدن، فإن قدرة الدولة على الاستجابة ستكون محدودة جداً. المصدر الثاني للهشاشة هو أزمة الولاء؛ في أي صراع داخلي عميق، لا يمكن للدولة أن تفترض تلقائياً أن الجيش والشرطة سيطيعون الأوامر بضرب مواطنيهم. التاريخ مليء بأمثلة على انشقاق القوات المسلحة حينما يُطلب منها استخدام القوة القاتلة ضد شعبها. الجندي أو الشرطي الذي يُرسل لقمع احتجاج في بلدته، قد يجد نفسه يواجه أقاربه وجيرانه وزملاءه في المدرسة. في مثل هذه الحالات، الولاء للدولة ليس مضموناً. الدراسة تتوقع أن دور الجيش في أي صراع مقبل سيكون محدوداً بحماية المناطق الخضراء الحيوية (القصور الرئاسية، المطارات، المنشآت النووية، المتاحف الكبرى)، وليس الانتشار الواسع في الشوارع لفرض السيطرة الكاملة. وإلى جانب الهشاشة الأمنية، هناك فجوة التوقعات الاقتصادية والاجتماعية، التي تُعتبر واحدة من أقوى محركات الثورات تاريخياً. الدراسة تستشهد ببيانات تُظهر أن جيل الشباب في الغرب اليوم هو أول جيل منذ الحرب العالمية الثانية سيكون أفقر من جيل آبائه. الرواتب الحقيقية (بعد احتساب التضخم) راكدة أو متراجعة منذ عقود، أسعار المساكن ارتفعت إلى مستويات فلكية، والوظائف المستقرة ذات الرواتب الجيدة والمعاشات المضمونة أصبحت من الماضي، استُبدلت بعقود مؤقتة واقتصاد الوظائف الهشة (Gig Economy). في بريطانيا، تراجعت فرص العمل للخريجين الجامعيين بنسبة 32% في عام واحد فقط (2023)، وهو انهيار مذهل في سوق العمل. هذا يخلق ما يسميه المؤرخ بيتر تورشين فائض النخب (Elite Overproduction)، وهي ظاهرة تحدث حينما ينتج النظام التعليمي أعداداً هائلة من الخريجين المؤهلين، لكن الاقتصاد لا يوفر لهم وظائف تليق بمؤهلاتهم. النتيجة هي جيش من الشباب المحبط، المتعلم، الطموح، لكنه محروم من أي فرصة حقيقية للصعود الاجتماعي. تاريخياً، هذه الفئة بالذات كانت دائماً الوقود الأساسي للثورات؛ الشباب الذين لديهم ما يكفي من التعليم ليدركوا الظلم، وما يكفي من الطاقة ليثوروا ضده، لكن ليس لديهم ما يخسرونه لأن النظام أغلق أمامهم كل الأبواب. وإلى جانب الإحباط الاقتصادي، هناك تفكك اجتماعي عميق. الدراسة تستشهد بأعمال روبرت بوتنام، عالم الاجتماع الأمريكي الشهير، الذي أثبت في كتابه “البولينغ وحيداً” (Bowling Alone) أن “رأس المال الاجتماعي”—أي شبكة العلاقات والثقة والتعاون بين أفراد المجتمع—قد تآكل بشكل خطير في العقود الأخيرة. الناس أصبحوا أقل مشاركة في الأندية والجمعيات المحلية، أقل ثقة في جيرانهم، أقل انخراطاً في الحياة المجتمعية. وفي دراسة لاحقة أكثر إثارة للجدل، أثبت بوتنام أن التنوع الإثني العالي في الحي الواحد يؤدي إلى تراجع الثقة، ليس فقط بين الجماعات المختلفة، بل حتى داخل كل جماعة. بمعنى آخر، في الأحياء شديدة التنوع، الناس يميلون إلى الانكماش اجتماعياً، وتقل مشاركتهم في الأنشطة الجماعية، وينخفض تبرعهم للأعمال الخيرية، ويتراجع تصويتهم في الانتخابات. بوتنام نفسه حاول أن يكون متفائلاً، وافترض أن هذه التأثيرات السلبية مؤقتة، وأن المجتمعات مع الوقت ستطور أشكالاً جديدة من التضامن. لكن عقدين من الزمن أثبتا عكس ذلك؛ الوضع لم يتحسن، بل تدهور أكثر. المجتمعات الغربية اليوم أقل تماسكاً، أقل ثقة، أكثر انعزالاً من أي وقت مضى، وهذا يجعلها أضعف في مواجهة الأزمات. رأس المال الاجتماعي هو الجهاز المناعي للمجتمع؛ حينما يكون قوياً، يمكن للمجتمع أن يمتص الصدمات ويتعافى بسرعة. حينما يكون ضعيفاً، أي أزمة صغيرة يمكن أن تتحول إلى كارثة. وإذا أضفنا إلى كل ذلك أزمة الأمان الشخصي، خصوصاً بالنسبة للنساء، فإن الصورة تكتمل بشكل قاتم. الدراسة تشير إلى أن معدلات الجريمة العنيفة، وخصوصاً الجرائم الجنسية، ارتفعت بشكل حاد في السنوات الأخيرة. في بريطانيا، تضاعف عدد جرائم الاغتصاب المسجلة خلال عقد واحد، مع تقارير تتحدث عن زيادة بمقدار ستة أضعاف في الاغتصاب من قبل الغرباء (Stranger Rape)، وهو أخطر أنواع الاعتداء الجنسي لأنه يعني أن المرأة لم تعد آمنة حتى في الأماكن العامة. الأنشطة التي كانت عادية تماماً—مثل الركض في الحديقة، أو حضور حفل موسيقي، أو السير في الشارع ليلاً—باتت محفوفة بالمخاطر. وحينما تحاول الإحصاءات الرسمية أو الخطاب الإعلامي التقليل من هذه المخاوف، أو اتهام من يعبّر عنها بالعنصرية، فإن ذلك لا يُطمئن الناس، بل يزيد من غضبهم، لأنه يُظهر أن النخب تفضل الصواب السياسي على سلامة مواطنيها. الخلاصة التي تصل إليها الدراسة بعد هذا التشريح المطول هي أن المجتمعات الغربية لم تعد تعاني من أزمة يمكن حلها، بل دخلت في حالة انتقالية قد تستمر لعقود، وستكون عنيفة جداً على الأرجح. الحرب الأهلية المقبلة، إذا حدثت—والدراسة تميل إلى القول إنها حتمية—لن تكون حرباً تقليدية بجيوش وجبهات واضحة، بل ستكون حرباً قذرة (Dirty War)، على غرار ما حدث في أمريكا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات، أو في إيرلندا الشمالية خلال الاضطرابات (The Troubles). ستشمل تفجيرات، واغتيالات، وهجمات على البنية التحتية، وعمليات اختطاف، ومجازر متبادلة. لن تكون حرباً حاسمة بل حرباً استنزافية طويلة، تأكل النسيج الاجتماعي ببطء، وتحول الحياة اليومية إلى جحيم من عدم اليقين والخوف. وفي نهاية المطاف، قد لا تنتهي هذه الحرب بانتصار طرف على آخر، بل بإعادة تشكيل خارطة أوروبا نفسها، ربما عبر انفصالات إقليمية، أو تقسيمات إثنية-دينية، أو ببساطة عبر تحول الدول الوطنية الكبرى إلى كيانات ضعيفة ومجزأة، على غرار ما حدث ليوغوسلافيا. المؤلفان، رغم قتامة التشخيص، يحاولان في نهاية الدراسة أن يقدما خارطة طريق للخروج من هذا المأزق، عبر اثني عشر توصية سياسية. فهم يطالبان بـإعادة شرعنة السلطة الديمقراطية، عبر احترام نتائج الانتخابات والاستفتاءات، وإنهاء ممارسات التحايل على الإرادة الشعبية. ويطالبان بـإعادة بناء رأس المال الاجتماعي كأولوية أمنية استراتيجية، وليس مجرد قضية اجتماعية هامشية. ويطالبان بـإعادة النظر في سياسات الهجرة، بحيث تُربط بـالقدرة الاستيعابية الفعلية للمجتمعات، وليس بحسابات اقتصادية مجردة أو أجندات أيديولوجية. يطالبان أيضاً بـمعالجة فجوة التوقعات الجيلية، عبر سياسات تضمن للشباب فرصاً حقيقية في العمل والسكن وتكوين أسرة. يطالبان بـتحصين البنية التحتية الحيوية، وإدراك أن الحصار سيكون سلاحاً رئيسياً في أي صراع مقبل. يطالبان بـمواجهة السرديات المتطرفة بسرديات أقوى، تقوم على الانتماء المشترك والمصير الواحد، بدلاً من محاولة قمعها بالرقابة والعقوبات، التي لا تفعل سوى تأكيدها. ويدعوان إلى إعادة النظر في القيود الأكاديمية المفروضة على دراسة الأدبيات المخالِفة للتيار السائد، إذ إن استبعادها لا ينفي تأثيرها، بل يحدّ من قدرة النخب على قراءة الواقع. لكن، وهنا تكمن المفارقة المأساوية، المؤلفان نفسهما يعترفان بأن هذه التوصيات شبه مستحيلة سياسياً. وأن تطبيقها يتطلب شجاعة سياسية ونزاهة فكرية وقدرة على التضحية بالمصالح الضيقة، وهي صفات نادرة جداً في النخب الحالية. سواء إعادة شرعنة الديمقراطية تتطلب من النخب أن تتخلى عن أدوات السيطرة التي استثمرت فيها عقوداً. أو إعادة بناء رأس المال الاجتماعي التي تتطلب عكس عقود من سياسات التعددية الثقافية المفروضة. وكذلك إصلاح نظام الهجرة الذي يتطلب الاعتراف بالفشل الذريع والتبعات التي لا رجعة عنها. والأهم، أن الوقت قد لا يكون في صالحهم؛ فالتحولات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية قد وصلت إلى نقطة اللاعودة في كثير من الحالات. لهذا، تختم الدراسة بنبرة يأس واستسلام، تقول بوضوح: الساعة الرملية قد نفدت، وليس هناك مجتمع أهدر شرعيته وحصل على فرصة ثانية لبنائها. ما ينتظر الغرب، إذن، ليس إصلاحاً، بل إعادة تشكيل، وهذه العملية التاريخية نادراً ما تتم بشكل سلمي. الخلاصة في الختام، بالنسبة للقارئ العربي، تطرح هذه الدراسة مفارقة لافتة. فقد أمضى الغرب عقودًا يقدّم نفسه نموذجًا مكتملًا لبناء الدول والحكم الرشيد والديمقراطية التعددية، متعاملًا مع أزماته بوصفها استثناءات عابرة، ومع أزمات الآخرين باعتبارها مشكلات بنيوية. غير أنّ ما تكشفه اللحظة الراهنة هو أنّ المجتمعات الغربية نفسها تواجه الأزمات ذاتها التي طالما جرى تصويرها على أنها سمة للأنظمة غير الغربية: تآكل الشرعية، اضطراب العقد الاجتماعي، اضطراب تعريف الدولة لذاتها، وعودة توترات عميقة إلى المشهد السياسي. بهذا المعنى، لا تفضح الدراسة هشاشة نموذج بعينه فحسب، بل تعيد مساءلة الافتراضات التي قُدّمت طويلاً بوصفها معايير كونية. فهي تبيّن أنّ الاستقرار ليس صفة بنيوية لأي نظام، مهما بدا راسخًا، بل نتيجة توازنات دقيقة يمكن أن تتفكك حين تفشل المؤسسات في التجاوب مع تحولات المجتمع. كما تُظهر أنّ قضايا الهوية — التي لطالما عُدّت مشكلة شرق أوسطية — تكشف اليوم عن كونها أزمة بنيوية تطال الدول الحديثة حين تخفق في إنتاج سردية مشتركة تقنع مواطنيها بجدوى استمرارها. والدرس الأعمق الذي تبرزه الدراسة هو أنّ النخب حين تنغلق داخل رؤيتها الخاصة وتفصل نفسها عن ديناميات المجتمع، تُسهم في خلق فجوات تتسع بمرور الزمن، وتُضعف قدرة النظام السياسي على احتواء التحديات قبل تحوّلها إلى أزمات. وهكذا يجد الغرب نفسه — وهو الذي قدّم ذاته مرجعًا ومعيارًا — يتحوّل إلى حالة دراسية تُظهر أن المشكلات التي أُلصقت بغيره كانت كامنة فيه أيضًا، تنتظر اللحظة المناسبة للظهور إلى السطح. على هذا الأساس، لا تبدو التحولات الجارية شأناً داخلياً محصورًا في الدول الغربية، بل مؤشراً إلى اهتزاز البنية التي استند إليها النظام الدولي القائم على القواعد. فحين تفقد القوى التي صاغت هذا النظام قدرتها على الحفاظ على شرعيتها في الداخل، يتراجع تلقائيًا نفوذها في الخارج، ويضعف الدور المعياري الذي مكّنها من تعريف قواعد السلوك الدولي وتوجيهها لعقود. وهكذا يصبح الانقسام الداخلي والتآكل المؤسسي جزءًا من أزمة أوسع تمسّ استمرارية النموذج نفسه، وربما قابليته للبقاء بوصفه الإطار المنظم للعلاقات الدولية. وانطلاقًا من هذا الفهم، حرصتُ في هذه المراجعة على تقديم الدراسة ومنطقها التحليلي بصورة ميسّرة تتيح للقارئ العربي، المتخصص وغير المتخصص، فهم البنية العميقة لهذه التحولات ومتابعة ما قد تؤول إليه. ومتابعة هذا الوضع ليست ترفًا فكريًا ولا ممارسة نظرية بعيدة عن الواقع، بل ضرورة لفهم التحولات التي تعيد تشكيل مراكز القوة في العالم. فهناك الكثير ممن ما زالوا ينظرون إلى المجتمعات الغربية بوصفها كيانات محصّنة أو فوق الانقسام؛ غير أنّ ما تكشفه هذه الدراسات يُظهر بوضوح أن مثل هذه التصورات لم تعد قابلة للاستمرار. ولعل إدراك هذا التحول يفتح الباب لقراءة أكثر واقعية لمستقبل النظام الدولي، وللموقع الذي سيؤول إليه النموذج الذي احتلّ مركزه طوال العقود الماضية. * باحث في العلوم السياسية