الأمة .. و الأئمة..

«حكاية الدولة السعودية من عمق التاريخ إلى أفق المستقبل»

ليس تاريخ الدولة السعودية سلسلةً من البدايات و النهايات، بل هو حكاية واحدة تمتد في الزمن كما يمتد الضوء في سماء صافية؛ حكاية أمة و أئمة، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، لأنهما وُجدا معاً، و نهضا معاً، و عبرا المحن معاً. هنا تكمن الدهشة: كيف استطاعت دولةٌ في قلب الصحراء أن تُعيد ولادتها ثلاث مرات، و كل ولادةٍ كانت أشد إشراقاً من سابقتها؟ كيف أمكن لتاريخٍ حافل بالتحديات أن يتحوّل إلى قوةٍ تكتب حاضرنا و ترسم مستقبلنا بثقةٍ ملكية فريدة؟ إنّ الدولة السعودية الأولى لم تكن مجرد كيان سياسي ينهض في زمن مضطرب، بل كانت مشروعاً حضارياً يوقظ المنطقة من سباتها. حين قامت على يد الإمام محمد بن سعود و الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لم يكن الهدف توسيع نفوذٍ أو توسعة سلطان، بل كان إعادة بناء الوعي، و ترميم الهوية، و جمع الناس تحت رايةٍ واحدة تُعيد للجزيرة العربية توازنها. كان السؤال حينها: هل يمكن لأمةٍ ممزقة أن تتوحد بلا جيش جرّار، و بلا خزائن ممتلئة، و بلا أدوات العصر؟ جاءت الإجابة من الناس، من إرادة العامة قبل إرادة القادة؛ لقد آمنوا بالمشروع، فصنعوا دولته. ثم جاء سقوط الدولة الأولى، و ظن العالم حينها أن القصة انتهت. لكن هنا تبدأ معجزة التاريخ السعودي: النهاية لم تكن نهاية. هل يمكن لدولةٍ تتعرض للإسقاط الكامل أن تعود بعد سنوات قليلة أقوى مما كانت؟ الدولة السعودية الثانية جاءت لتقول إن الجذور التي غرسها الأئمة في قلوب الناس أعمق من أن تُقتلع بقرارٍ سياسي أو حملةٍ عسكرية. لقد عادت الدولة لأن الأمة رفضت غيابها، و لأن الرابط بين الناس و قيادتهم أقوى من صدى البنادق و بيان المنتصرين. و هنا تبرز الأسئلة التي تُدهش المؤرخين: من أين لهذا المجتمع كل هذه الصلابة؟ كيف تتجدد الدولة في كل مرة من ذات الفكرة، بذات الروح، بذات القيم؟ ومع الدولة السعودية الثالثة، على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، كانت الدهشة أكبر، و الحكاية أعظم. لقد جمع شتات الجزيرة، و وحّد أرضاً لم ينجح أحد في توحيدها منذ قرون، و فعل ذلك لا بالقوة وحدها، بل بالحكمة، و الرؤية، و الصبر، و معرفةٍ دقيقة بطبيعة الإنسان و المكان. كان الملك عبدالعزيز يدرك أن الدولة لا تُصنع بالسيوف، بل تُصنع بالثقة؛ ثقة الناس في قائدهم، و ثقة القائد في مشروعه، و ثقة الوطن بأنه يستحق أن يولد من جديد. فكان الميلاد الثالث أعظم من الأول و الثاني، لأنه كان ميلاد وطنٍ كامل، لا مجرد دولة. لكن السؤال الأعمق يظل قائماً :: ما الذي جعل هذه الدولة تستمر؟ ما الذي جعل ثلاث حكايات تبدو في الحقيقة حكايةً واحدة؟ الإجابة تكمن في كلمة واحدة :: الثقة. الثقة التي جعلت الأمة تلتف حول الأئمة، و جعلت الأئمة يحملون مسؤولية الأمة، في علاقةٍ لم يشهد لها تاريخ المنطقة مثيلاً. إنّ هذا الرابط ليس عقداً سياسياً ولا تحالفاً ظرفياً، بل هو امتداد طبيعي لفكرة أن الدولة السعودية ليست مجرد حكم، بل هي هوية، و قيم، و مشروع حياة. و حين ننظر إلى حاضر المملكة اليوم، ندرك أن تلك الحكاية الطويلة لم تكن تمهيداً فحسب، بل كانت أساساً لنهضةٍ جديدة تكتمل في زمننا. فالمملكة اليوم ليست وريثة ثلاثة عصور فقط، بل هي وريثة ثلاثة إصرارات، ثلاثة انتصارات، ثلاثة بدايات. وما زال الرابط بين الأمة و القيادة هو أعظم ما نملكه. فكما حفظ الأئمة وحدة الناس في الماضي، يحفظ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز و سمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان اليوم قوة الدولة، و استقرارها، و مكانتها، في عالمٍ يزداد اضطراباً. وهنا سؤالٌ يثير الدهشة مرة أخرى :: كيف استطاعت المملكة أن تنمو رغم كل التحولات العالمية، و الأزمات الإقليمية، و محاولات التشويه التي تزداد كلما ازداد الوطن قوة؟ الجواب ذاته يعود :: لأن الرابط ذاته لم ينقطع. منذ الدولة الأولى وحتى الدولة الثالثة، مروراً بالرؤية السعودية الحديثة، كانت المملكة ثابتة في أهم معادلة عرفها تاريخها :: إذا اجتمعت الأمة و القيادة، استمرت الدولة. و إذا استمرت الدولة، استمر الأمن. إنّ الأمن الذي نعيشه اليوم ليس حالةً عابرة، بل هو امتداد لذلك التاريخ، لذلك الوعي، لذلك الرابط العميق بين الناس و ولاة أمرهم. و الأمن في السعودية لم يكن يوماً مجرد غيابٍ للخطر، بل كان حضوراً للقوة، و الاستقرار، و الكرامة الوطنية. هذه هي حكايتنا :: دولةٌ تُظن نهايتها فتُفاجئ التاريخ ببدايةٍ أعظم. أمةٌ تُختبر فتزداد تماسكاً. و قيادةٌ تحمل الوطن كما يحمل الأب ابنه؛ بحزم، و حب، و مسؤولية. وهكذا… لم يكن تاريخ الدولة السعودية سلسلة فصول منفصلة، بل كان كتاباً واحداً عنوانه «الأمة .. و الأئمة»، و روحه «الوحدة»، و رسالته «أن الوطن الذي يجتمع أهله لا يمكن أن يسقط».