من حكايا الاغتراب.

تلك الغيمة البيضاء تضاحكني! تتبعني!  تلوح لي، تسقط بعضها في حجري أتحسسه على خدي باردا كالثلج  ابتسم لها وعنقي يلتوي أكثر ليتبعها ، شعور اللهفة يجتاحني يحيلني لورقة في مهب الريح ، لقطعة من الحلوى تسيل بين أصابع صغيرة .. تمنيت لو يتوقف القطار وألوح لغيمتي ، ولترى ابتسامتي يا إلهي ! تلك الشقراء تزم شفتيها الرقيقتين تبدو غاضبة ؟! من يغضب الآن؟  كدت أقف وأفك التواء ذراعيها من فوق صدرها ! وذلك الصغير يتلوى باكيا في عنق أمه ، فتحت حقيبتي لأبحث عن قطع الحلوى لأسكته بها ، شهقت وأنا أكاد أقترف جرما ظننتني في بلدي البعيد ،أغلقت حقيبتي وأنا أحاول التماسك ، وتجاهل من حولي وأكف عن محاولة إسعادهم همست لنفسي لأبدو أكثر اتزانا، لكنني لم أستطع السيطرة على ارتجاف كفي بل كل جسمي وهذه الضحكة التي أوجعت عضلات وجهي ، كيف لها أن تجتمع ودموعي التي تهطل كأمطار غيمتي  ؟! وجدتني وسط المطار لا أدري كيف وصلت ؟ كيف ترجلت من القطار هل كنت أطير؟ وهل وصلت لغيمتي؟ مازال الوقت باكرا على وصولها، أتفهم ذلك لكنني لم أستطع الانتظار في المنزل كدت أبيت ليلتي في المطار، لا أصدق أنها ستجئ وأنني سأرتمي في حضنها بعد سنوات الحرمان ، سأعود صغيرة تلثغ بماما وتقضم ماتدسه خلسة في فمي ، أريد أن أصدق فعلا أنني سأستقبلها وأن ذلك ليس حلما عشته ملايين المرات وفي كلها يتبخر حال صحوي ، وحالما يفزعني أحدهم بطلب ما وقد كنت أنسج أحلام اليقظة معها ، شعرت بالوحدة أكثر من أي وقت داهمني الحزن الذي أكرهه حين تخلى عني أفراد عائلتي في هذا الوقت بالذات كنت بحاجة لأحدهم لكنهم لا يستطيعون التفريط في يوم عمل يرونه رزقا يسكبونه على الأرض! لست بحاجة للقهوة ولا للنوم ولا أريد تناول فطوري ولاخبزي ولا حتى شربة ماء تبلل حلقي الذي يكاد يتيبس، فقط أريد حضنها اللذيذ لارتمي فيه وأغسل وجع الماضي وحرمان السنين ..أريد أن أعود تلك الطفلة وأبدأ حياتي من جديد حيث انتهيت معها أواه يا أمي! وقد انتزعوني من حضنها طفلة يسيل أنفها وتنضح عيناها الواسعتين ، كنت أصرخ وهي تنوح! أوصلتني لآخر نقطة في الحدود حيث لايمكنها تجاوزها سلمتني كأمانة لتلك العائلة الطيبة ، احتضنتني والدتهم وهي تعد أمي بالحلف عشرات المرات أنني سأكون في حمايتها ، سأكون بأمان حتى تسلمني لخالي في المهجر لو استطاعت! غابت أمي عني وسقطت في حيرتي وقد أمروني بالصمت حتى لا أفسد خطة اللجوء ابتلعت شهقاتي وجسمي يرتجف مع كل شهقة تفلت مني ، لم يكن الخوف غريبا علي وقد خبرته في آخر سنواتي موجعا حد الانهيار وأنا أراه في عيني والداي الزائغتين وهما يتوسلان للجنود ألا يدخلوا المنزل بأسلحتهم ويروعوا الصغار ، وقد خلا البيت من كل شيء ، المريح أن زياراتهم المرعبة لقريتنا  كانت متباعدة ويظل الجيران يتناقلون أخبار مداهمتهم للمنازل حتى يستعد الجميع لاشباع بطونهم ليرحلوا بأمان ..اضطرت أمي يوما لذبح عنزتنا الوحيدة لتكف أذاهم عني كنت ملتصقة بالأرض وهم يعدون الأسماء منذ المرة الماضية ويراقبون طول البنيات ..في ذلك اليوم قرر والدي رحيلي لأكون بأمان كانت حكايا المجندات  في الجيش تقضم قلوب الآباء والأمهات وتجبرهم على ترحيل بنياتهم لبر الأمان !! أي وطن هذا الذي يلفظ أبناءه!! مازلت لا أستطيع الانعتاق من شبح الماضي رغم كل هذا الأمان الذي أرفل فيه منذ وصلت لخالي وزوجني من ابنه وتوالى الأبناء في حجري ! مازلت بحاجة لأمي وقد أصبحت أما تقطر حنانا يلومني والدهم عليه كثيرا، أشعر بهلع بالغ عليهم وكأن جيشا من الجنود سيخطفهم مني ! جلست في أقرب مكا ن لوصول المسافرين ومازال الوقت باكرا لأراها لكنني لازلت أيضا هناك حيث القارب الضيق فيه عشرات الأنفس نودع أفريقيا كلها وليس قريتي وعائلتي وأمي، أخذني الانبهار بالبحر قليلا وهي المرة الأولى التي أراه فيها وقد عشت في قرية معلقة بين الرمال والأشواك..ما إن أصبحنا وسط البحر حتى داهمني الدوار وكدت أسقط فيه وتقلبت معدتي الفارغة كثيرا وآلمتني بالقدر الذي لم أعد أحتمله وغبت عن الوعي. استيقظت من حلم عجيب كنت أسمع صراخا وعويلا وأمواج تهدر وقاربا يعلو ويهبط يطير في الظلمة كنجمة ويسقط في البحر كسمكة طافية وربما مقتولة! كانت أمي تمد يدها لي لأتعلق بها تمسك بي تقبض على كفي والريح تنفضنا لأطير بعيدا عنها نصرخ سوية يبللني الماء أجدني في القارب والصراخ يداهمني كحقيقة وأعود لأغيب تماما في حلمي وأجد أمي تمسك بي تقطر دموعها وتنسكب في موج البحر، تقدم لي تفاحة خضراء قاسية أقضمها بنهم من جاع أياما  صحوت ممدة على شاطئ رطب ويد حنونة تمسك بي ، وساق نحيفة ترجفنا لنركض هناك هناك ونختبئ ! لا أدري كيف استطاعوا النجاة بنا في خضم هذا البحر ومن ثم الذوبان في البشر حتى أصبحنا منهم ! لكنها قدرة الله  تعالى ، ونعمه التي لاتعد ولا تحصى ، كنت أشعر بدعوات أمي تطمئنني ولاتزال تعلق في أذني برغم هدير الأمواج الذي لازال يطن في أذني منذ أيام.. وجدتني أطوق رأسي وأشعر بضغط راحتي على أذني بقوة كل ذلك لأنسى وابتسمت بإصرار ، وأنا أنظر للساعة للمرة المئة فيما يبدو : سأفعل يا أمي حالما تكونين معي .