حضر الفيلم التاريخي «محاربة الصحراء» في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بقوة حيث عرض في أول عرض له بالشرق الأوسط ولم نكن نشاهد مجرد فيلم يعبر عن معركة حربية تُستعاد فيه أصوات السيوف وصهيل الخيول، بل نقف أمام ملحمة بصرية تعيد تشكيل الذاكرة العربية في لحظة من أنقى لحظات الشرف والولاء للأرض. منذ المشهد الأول، يعلن الفيلم أن الصحراء ليست فراغًا، بل ذاكرة حيّة، وأن معركة ذي قار لم تكن صدام جيوش فحسب، بل امتحانًا لهوية أمة بأسرها. وحين تقدّم الفرس مدججين بقوتهم وجبروتهم ليخوضوا حربًا أشعل دفاعُهم المزعوم عن فتاة عربية شرارتها الأولى، لم تكن الحكاية في جوهرها قصة امرأة، بل كانت قصة كرامة دمٍ عربي. فهبّت القبائل، رغم اختلافها، صفًا واحدًا في وجه الجيش الفارسي، دفاعًا عن الشرف، وعن الأرض الجامعة لهم، وعن معنى ألا يُهان العربي في عقر داره. وهنا تتجلى عظمة ذي قار في الفيلم: وقفة وجود قبل أن تكون وقفة سيوف. وفي حصيلة التعاون الإنتاجي بين «استوديوهات MBC» وشركة «JB Pictures»، خرج هذا العمل إلى النور كمشروعٍ سينمائي عابر للحدود، جمع في بطولته كوكبة لامعة من نجوم العالمية والعرب؛ يتقدّمهم: أنتوني ماكي، عايشة هارت، السير بن كينغسلي، شارلتو كوبلي، غسان مسعود، سامي بوعجيله، لميس عمار، جيزا روهريغ، وغيرهم من الأسماء التي شكّلت طابعا تمثيليا ثرياً. أما سيناريو الفيلم، فقد حمل مشاركة كل من روبرت ويات، وإيريكا بيني، وديفيد سيلف، في نصّ درامي صاغ المعركة بوعي تاريخي ونَفَس ملحمي يليق بثقل الحكاية وروحها. احترام القبائل العربية وتصحيح السرد التاريخي تميّز الفيلم بتناوله المتزن للقبائل العربية المشاركة في المعركة، فجاء عرضها بعيدًا عن التحيّز أو التهميش، مقدّمًا إياها بوصفها مكوّنًا حضاريًا وشريكًا في صناعة الحدث، لا مجرد أدوات حرب. ويُحسب للعمل إدراجه في نهايته تصحيحًا تاريخيًا واعيًا لبعض الجزئيات، في خطوة تحترم المشاهد، وتصون الذاكرة من الاختزال، وتفتح باب المراجعة للتاريخ. الدهاء العربي… حين انتصر العقل قبل السيف من أجمل ما قدّمه الفيلم إبراز الدهاء العربي في قلب المعركة، حيث لم يُصوَّر النصر بوصفه نتيجة قوة عمياء، بل ثمرة عقلٍ محنّك يعرف كيف يهزم الضخامة بالحيلة. مشاهد نصب الفخاخ للفيلة كانت من أكثر لحظات الفيلم كثافة درامية، إذ تحوّلت رمزية الفيل – رمز القوة الساحقة – إلى عبء على صاحبه، حين واجه ذكاء الصحراء وخبرة أهلها. كما أبدع الفيلم في تصوير دور الإبل والجِمال بوصفها سلاحًا تكتيكيًا لا مجرد وسيلة تنقّل، إضافة إلى براعة الرماة الذين أمطروا العدو بوابل من السهام، والقتال الباسل بالسيوف الذي جسّد شراسة المواجهة وجهًا لوجه. بدت المعركة وكأنها سيمفونية من الحركة والموت والبطولة، حيث انتصر العقل أولًا، ثم الساعد ثانيًا. تبوك والعلا.. عندما تنطق الصحراء جاء التصوير في تبوك والعلا ليمنح هذه الوقائع عمقها الحقيقي؛ فالمكان لم يكن خلفية صامتة، بل شريكًا في السرد. امتداد الرمال، صمت الجبال، انعكاس الشمس على الوجوه المرهقة، كلها عناصر أسهمت في صناعة حالة من المعايشة الكاملة للحدث. وقد كان التصوير أكثر من رائع في نقل تفاصيل الفخاخ، وحركة الفرسان، واندفاع الفيلة، والتحام الصفوف بالسيف، حتى شعر المشاهد أنه داخل قلب المعركة لا أمام شاشة. المشاركة العربية والعالمية.. أسهمت المشاركة العربية والعالمية في رفع السقف الفني للعمل، سواء على مستوى الإخراج أو الأداء أو تقنيات المعركة. هذا التنوع لم يخلّ بروح الفيلم، بل أضفى عليه نَفَسًا ملحميًا عالميًا، جعل قصة ذي قار مفهومة بلغة السينما الحديثة، دون أن تفقد روحها العربية. «محاربة الصحراء» ليس فيلم معركة بقدر ما هو فيلم موقف ووعي تاريخي. هو عمل يذكّرنا أن العرب في ذي قار لم ينتصروا لأنهم أكثر عددًا، بل لأنهم كانوا أكثر إيمانًا بمعنى الأرض وبحرمة الشرف وبقدسية الدم. انتصروا حين جمعوا بين الدهاء والعقيدة، بين الحيلة والسيف، بين العقل والقلب. هو فيلم يُشاهد بوصفه متعة بصرية، ويُقرأ بوصفه رسالة تاريخية وفكرية، ويُحسّ بوصفه إعادة اعتبار لملحمة عربية كادت تُختزل في سطور كتب، فأعادها «محاربة الصحراء» إلى صدور الرجال… وإلى ذاكرة الأجيال.