متاهة الجبن وحتميّة التغيير.

في صبيحة أحد الأيام، استدعاني رئيس الشركة التنفيذي -بصفتي مديراً لمكتبه-، وعندما قابلته كان بيده كُتيّب صغير الحجم، ناولني إياه وطلب مني قراءته وتوزيع نُسخٍٍ منه على جميع المُدراء ورؤساء الأقسام في الشركة، وأن أحثّهم على قراءته وإحاطة الموظفين العاملين لديهم بأهميّة محتواه، والعمل على تحقيق الأهداف التي يرمي إليها. كانت هذه الشركة الوطنية الكُبرى، في مطلع الألفية الثالثة، قد بدأت بتنفيذ استراتيجية شاملة للتحوّل من شركة إقليمية إلى عالمية، لها حضور في شتّى المواقع والأسواق الهامّة على خريطة العالم، وقامت بالاستحواذ على عددٍ من الشركات العالمية العاملة في نفس المجال، لتزيد من مكانة الشركة وشبكة عُملائها وبراءات اختراعاتها. ولذلك فإن الموارد البشرية؛ المُتمثّلة في الكوادر الإدارية والفنية من الموظفين على مختلف المستويات، بصفتها أهم العوامل المُحقّقة للنجاح في المنظّمات، ينبغي عليها الإحاطة بهذه المُتغيّرات، والعمل على مواكبتها. إن حياتنا مليئة بالمتغيّرات على مختلف الأصعدة بما في ذلك الحياة العملية، سواء أحببنا ذلك أم لا، ونجد أن بعض الناس يتأقلمون معها بسرعة، والبعض الآخر يقفُ في مكانه متجمّداً، يتساءل: كيف ولماذا حدث هذا التغيير؟ هُنا تأتي فكرة الكتاب، الذي يُقدّم درساً بسيطاً ولكن عميقاً حول كيفية التعامل مع التغيير وعدم الخوف منه. الكتاب اسمه “من الذي حرّك قطعة الجبن الخاصّة بي؟” Who Moved My Cheese? ومؤلّفه هو “سبنسر جونسون”، والكتاب بقي منذ صدوره في عام 1998 على قائمة “نيويورك تايمز” لأكثر الكُتب مبيعاً لمدّة خمسة أعوام، وبيع منه حتى عام 2018 أكثر من ثلاثين مليون نسخة. كتب المؤلّف هذا الكتاب بأسلوبٍ قصصيّ بسيط، لكنه يحمل رسالةً تُفيد الجميع، سواء كان موظّفاً أو رجل أعمال، أو حتى شخصاً يبحث عن تغيير إيجابيّ في حياته. يبدأ الكتاب بالحديث عن اجتماع بعض الأصدقاء القُدامى في أحد الأيام لتناول العشاء معاً، إذ كانوا زُملاء دراسةٍ سابقين، ولكن كلّ واحدٍ منهم سلك طريقاً مُختلفاً في الحياة.. فبعضهم حقّق نجاحاً كبيراً، بينما واجه الآخرون تحديّات وتغيّرات لم يكونوا مُستعدّين لها. وبينما كانوا يتبادلون الأحاديث عن حياتهم وأعمالهم، سُرعان ما تحوّل النقاش إلى موضوع “التغيير”، وكيف أن البعض يتعامل معه بسهولة بينما يجد آخرون صعوبة في تقبّله. وأشار أحد الحاضرين إلى أن نجاحه في حياته العملية يعود بعد توفيق الله إلى تقبّله للتغيير بدلاً من مقاومته، ثم قال بابتسامة: “لقد تعلّمتُ درساً عظيماً من قصّةٍ صغيرة عن الجبن”! ثم يبدأ بسرد القصّة التي تُجسّد واقع الحياة بأسلوب رمزيّ، حيث رمز إلى مُتطلّبات الحياة وملذاتها بقطعة الجبن، ورمز إلى الحياة التي نعيش فيها “بالمتاهة”؛ وهي المكان الذي يُمضي فيه الإنسان وقته، وقد يكون هذا المكان شركةً أو مُجتمعاً يعيش فيه أو علاقاتٍ يحظى بها، باحثاً عن ضالّته المنشودة؛ التي ربما كانت: الصحّة أو المال أو الوظيفة أو المنزل الكبير، أو غير ذلك. وأشار إلى وجود أربعة أشخاصٍ ظُرفاء يعيشون داخل هذه المتاهة ويسعون جاهدين إلى تحقيق أهدافهم وإكمال سعادتهم في امتلاك قطعة الجبن. وعبر المواقف المختلفة لشخصيات القصّة في مواجهة التغيّرات، يُذكّرنا الكتاب “بأن الجبن لا يبقى في مكانه إلى الأبد”، وأن التغيير قادمٌ لا مفرّ منه، ولذلك فمن الأفضل أن نتعلّم كيف نواكبه ونتحرّك معه، بدلاً من أن نقضي حياتنا في مُقاومته. هذا الدرس ينطبق على كلّ شيء؛ من تغيّرات سوق العمل، إلى العلاقات الشخصية، وحتى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وتماماً، كما يقول المثل: “الريح التي لا تستطيع أن توقفها، سِر معها”، فإن هذا الكتاب يدعونا إلى التكيّف بدلاً من التذمّر، والتحرّك بسُرعة بدلاً من انتظار أن تعود الأمور كما كانت عليه، لأن الأمور ببساطة لن تعود أبداً كما كانت، و”بقاء الحال من المُحال”! إن الحياة ليست مُجرّد ممرّ مٌستقيم يسهل التحرّك داخله بحُريّة، بل هي أشبه بمتاهةٍ يتعيّن علينا البحث داخلها عن الطريق الصحيح، وقد نضلّ الطريق وتتشابه الدروب، وبين الحين والآخر ربّما نصل إلى ممرّات مسدودة.. ولكن إذا كُنّا واثقين من أنفسنا وإمكانياتنا، فسوف تُفتح الأبواب لنا، وقد يكون هذا الباب غير الباب الذي كُنّا نُفكّر فيه، ولكنه بالتأكيد هو الخير.. والخير هو فيما يختاره الله سبحانه وتعالى.