في قصائد الشاعر عبدالله الجشي.

اليمامة الشعرية المكانية والإنسانية.

كما يتعدد اللون الواحد وتتميز مقاصده ودلالاته فيكون الأحمر الشهي على قشر التفاحة غير الفاتن في أحمر الشفاه وغير المقدس في أحمر دم الشهداء كما تؤكد مدرسة الرموز والصيغ الألمانية ـ الفرنسية، تأتي كذلك اليمامة الشعرية والتاريخية على مقاصد ودلالات متعددة عبر أسطورة حادة البصر زرقاء اليمامة وعبر طائر اليمام البري ومن خلال إحدى المناطق في الجزيرة العربية في المملكة العربية السعودية، إضافة إلى معناها اللغوي الذي يدل على القصد والهدف؛ ولا نبالغ بعد هذا العرض إذا قلنا بأن الشاعر عبدالله الجشي جعل قصيدته مفتوحة على رحابة هذه الدلالات كلها بل وأضاف إليها يمامة أخرى إنسانية سمى بها ابنته وامتد بها إلى مدينة القطيف وسمى باسمها ابنه « قطيف « ملوناً من خلالهما بأشواقه المتأججة خريطة يمامته الشعرية وذلك بعد أن قضى شطراً من عمره في العراق مؤكداً بأنه إذا أنجب أبناء آخرين ستكون ثقيف نسبة لمدينة الطائف، وستكون طيبة نسبة للمدينة المنورة من أسماء أولاده؛ من خلال ذلك اتسعت يمامة قصائده التي لم تتوقف عند حدود الأمكنة التي سكنها وسكنته، بل بلغت لتكون عنوانه ودليله الموصل إليها وإلى محبيه بعد أن غدت باختياره اسماً لأولاده فلزات قلبه جاعلاً إياهم مرسالاً وجاعلاً من ابنته يمامة جسر تواصل مخاطباً إياها بيمامة قلبه حيث موطنه الأول: طوفي (يمامة) بالجزيرة حلوة الأنغام نشوى طيري (يمامة) (لليمامة) فالذرى للطير مأوى(1).(3) من خلال ذلك يجعل الشاعر عبدالله الجشي من أرض اليمامة مركزاً لأشواقه التي سرعان ما تتسع دائرتها إلى جغرافية أرحب، وإذا كان الاسم ينقل الكائن المسمى من المجهول إلى المعلوم كما يؤكد رومان جاكبسون(2) فالشاعر ضمن هذا السياق جعل اسم اليمامة ـ الأرض ـ كينونة إنسانية مُعَرِّفة بابنته بعد أن أطلق اسم هذه الأرض عليها والتي أضحت بعدئذِ منطلقه إلى مدن وطنه الأخرى رافعاً لها رايات التحية ومبلغاً إياها منه السلام: سلام على هضبات (الحجاز) تشمخ كالأنسر الطائرة و(نجد) وآرامها والصبا وعزة أمجادها الغابرة سلام على سعفات (القطيف) وشطآنها الحلوة الزاهرة وجنات أحبابنا (بالهفوف) ونيران (ظهراننا) الهادرة(3). (19) والشاعر لا يأتي ذكره لمدن بلاده ويمدحها من فراغ أو لمجرد تأجج عواطف الشوق لها، بل إنه يقرن ذكره لها باستحضار عمق مكانتها التاريخية التي ولدت منها أمة وعقائد رسالة حضارية وعديداً من القبائل الأصيلة، وردد في سياق ذلك: بلادي مصنع التاريخ والمدنية الزهراءْ تلاقى العلم والفن بها، والجد والإثراء هنالك أمة تنشي وثم مفكر بناء مدائن (صالح) و (الخط) و (البطحاء) و (الأحساء) وسلي (دارين) كم زفت إلى الآفاق من سفر وسلي (مكة) كم هلت بنبراس ومشكاة ونشرة كتائب التحرير من (مضر) ومن (بكر)(4).(20) إن ما يمضي إليه الشاعر عبدالله الجشي في هذا السياق الذي يتحدث فيه بصوت الضوء ويكشف من خلاله الملامح التاريخية لجغرافيا الجزيرة العربية وأصالة قبائلها وعراقة مدن المملكة فيها وهو ما يقدمه بوقود معرفي لأن الشاعر الجشي غادر وطنه مع والده وهو طفل حديث السن واللحظات المؤثرة الماضية لا تموت على حد تعبير مارسيل بروست وكانت بالفعل دافعة بالشاعر الجشي للإلمام بملامح وطنه الثقافية إضافة إلى حبه المشفوع بالحنين إليه والذي اندفع من خلاله يخاطبه ويتغنى بذكرياته في ربوعه: سلام على وطن الذكريات وأيامه السمحة العاطرةْ حبت فوق أرضك يا موطني طفولتي الغرة السادرة (5) وملهى شبابي، بين (ثاج) و (يبرين)(5).(6) ويبقى مأخوذاً بوسط عوالم بلاده التاريخية وبوسط نعيم جمال ذكرياته فيها متوسلاً عبرهما وطنه على ما عداه طالباً من كله وليس من أجزائه أخذه للرجوع إليه بعد طول البعد والغياب عنه مدركاً ببنيته العقلية المعرفية والعاطفية بأن الأثر الكبير الذي يمتلكه سحر الوطن المودع في قلب محبيه من أبنائه هو من سيحملهم للعودة والرجوع إليه ليعيشون في نعيمه جسداً وروحاً من جديد، لذلك الشاعر الجشي من خلال هذه المدركات خاطب الوطن ليكون هو ذاته جسر الوصل إليه وإلى أحبائه الكائنين فيه قائلاً: أعدني يا موطني للرفاق رفاق القوافي، رفاق العمرْ أعدني لصدرك حتى أحس بأن الخلود حباني مقر وصوت على ثغرك الأرجوا ني قبلة (فينيقيا) تزدهر ولؤلؤة في ضفاف (القطيف) وأغرودة في دوالي (هجر)(6).(2) إن الشاعر عبدالله الجشي إذ يعوّل عبر هذا السياق الشعري على البلاد لاحتضانه ولتضع حداً لغربته وبُعده عنها فإنه يضفي عليها في تراكيب جملته الشعرية صفات الحبيبة فياضة الجمال والحنان على أبنائها ويقوم من خلالها بأنسنة الوطن فأورد في مناداته له: أعدني لصدرك، وصوت على ثغرك الأرجواني قبلة فينيقيا تزدهر... وهو بإضفاء عناصر من الأعضاء الإنسانية يُلغي الفواصل بين الإنسان ووطنه وكأنه بذلك يقول لذاته ولقارئه أيضاً: أنت وطنك ووطنك أنت؛ وهو علاوة على ذلك استخدم في سياق شعري آخر العناصر الطبيعية ومكونات المكان وهو ما يعتبر ثمرة انتقاء في تشكيل الصورة من هذه الموجودات لما تضفيه من حركة في تراكيب النص الشعري كما يؤكد الناقد مصطفى الضبع والناقدة أميرة حلمي مطر(7) وفي سياق ذلك استجلب الشاعر الجشي من محيط فضائه أغنية الشوق والرجوع ومساوياً بين ظمأ العودة لمدن الوطن وعطش الزهور إلى المطر لتنبعث منها وتبث رحيق الحياة، وعبر عن ذلك في قوله: بلادي يا عبق الأمسيات وأغنية العشق في الذاكرة أحن إليك حنين الزهور عطشى إلى المزنة الماطرة أمد إليك خيالي عبر الحدود لألثم تربتك الطاهرة لأرشف منها رحيق الحياة تفجره الفرحة الغامرة لأكحل عيني بمرأى الضفاف تحضن لهفتي الثائرة(8). (12) إن يمامة الولادة والطفولة ومبتدأ عمر شباب الشاعر عبدالله الجشي تنبعث وتولد في العديد من قصائده وتمتد في المكان لتبلغ عديد مدن مملكة بلاده الوطنية كما تمتد في الزمان فلا تترك الماضي يبتعد عن راهن أشواقه المشرعة المتأججة ولا تترك الحاضر مستسلماً لسيرورة الزمن بل تستوقفه عند أحلام العودة والرجوع إلى أن تتحقق، ففي قصيدة (ذكريات الصبا) يقول: وسقيت النخيل أحلى رحيق عتقته (دلمون) من أزمان وحرقت البخور في هيكل الوحي بدارين نجمة الشطآن ووهبت القطيف مهد ربيعي كل ما كان خيراً في كياني (12) وفي قصيدة (فرحة العودة) يقول: فيا وطن الأهل والذكريات ويا مهد أجدادنا من (مضر)) وملعب خيل (تميم) و (بكر)) ورهطي الألى بهمُ أفتخر و (خولة) والنفر الخالدين بني (عبد قيس) صباح الغرر(9). (22)) عبر هذا النداء الذي حمله صوت الشاعر عبدالله الجشي بقلب فياض وبحنين لا يكف جعل يمامته الشعرية مرسالاً له فطافت به كل أرجاء وطنه في الجزيرة ومملكتها العربية السعودية مشتاقاُ إلى تربة عمره التي خُلق منها وشبّ في سحرها ساعياً التحرر من بُعد الغربة عنها ليعود بوصله الذي يحلم به إلى وطنه المشتاق إليه بلا انتهاء.. هوامش وإحالات 1ـ ديوان الحب للأرض والإنسان ـ شعر عبدالله الجشي ـ المملكة العربية السعودية ـ مطابع الرجاء 1419هـ. ص56 2ـ قضايا الشعرية ـ رومان جاكبسون ـ ترجمة محمد الولي ومبارك حنون ـ دار توبقال للنشر ـ الدار البيضاء ـ المغرب1988م. 3ـ ديوان الحب للأرض والإنسان ـ شعر عبدالله الجشي ص107 4ـ المرجع السابق ص164 5ـ المرجع السابق ص108ـ132 6ـ المرجع السابق ص217 7ـاستراتيجية المكان ـ مصطفى الضبع ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة1998م ـ ومقدمة في علم الجمال ـ أميرة حلمي مطر ـ دائرة الثقافة للطباعة والنشر ـ القاهرة1976م. 8ـ ديوان الحب للأرض والإنسان ـ شعر عبدالله الجشي ص108 9ـ المرجع السابق ص108ـ216