رجل الخشب..

تأمل في الإنسان الذي صار شيئاً.

فيلم المخرج العراقي قتيبة الجنابي لا يروي قصة بالمعنى المعتاد، بل يُجسِّد حالة. البطل الوحيد فيه هو دمية خشبية بحجم إنسان حقيقي، منحوتة بطريقة بدائية، وجهها جامد، مفاصلها متيبسة، لا تتكلم ولا تتحرك من تلقاء نفسها. تُحمل، تُسحب، تُلقى في صندوق سيارة، تُربط بحبل في قارب، تُترك على قارعة الطريق، تُصوَّر، تُفتش، تُركل أحياناً. كل هذا يحدث لها دون أن نعرف اسمها أو تاريخها أو حتى سبب صنعها. ومع ذلك نشعر أننا نعرفها جيداً، لأنها، ببساطة، نحن. الفكرة المحورية في الفيلم يمكن تلخيصها في جملة قاسية وبسيطة: حين يُقتلع الإنسان من جذره يتحول إلى شيء. ليس إلى حيوان ولا إلى شبح، إنما إلى شيء مادي ثقيل، قابل للنقل والتخزين والتخلص. الخشب هنا ليس اختياراً عشوائياً. الشجرة كانت حية، لها جذور عميقة في تربة محددة، ثم قُطعت، جُففت، نُحتت، طُليت، صارت تمثالاً يشبه الإنسان لكنه ليس إنساناً. هذه العملية بالذات هي ما يمر به المهجَّر: يفقد الجذر، يُجفف من الداخل، يُعاد تشكيله حسب حاجة السوق أو القانون أو الرحمة المؤقتة، ثم يُترك ليواجه مصيره كقطعة أثاث عتيق لا أحد يريده تماماً ولا أحد يجرؤ على رميه نهائياً. الصمت هو اللغة الحقيقية للفيلم. لا توجد موسيقى تصويرية درامية تُملي علينا ما يجب أن نشعر به، ولا تعليق صوتي يشرح. الصوت الوحيد المتكرر هو صوت الخشب نفسه: فرقعة المفاصل حين تُحرَّك بالقوة، احتكاك الحبل في الرقبة، صوت الطلاء المتشقق تحت الشمس، صوت خطوات البشر الثقيلة حوله. هذا الصمت المطلق هو التعبير الأصدق عن الإنسان الذي فقد لغته الأم ولم يكتسب بعد لغة مفهومة في المنفى، فصار يُفهم فقط من خلال حركة الآخرين حوله. كلما طال صمت الدمية، كلما ازداد ثقلها في أعيننا، لأننا ندرك أن هذا الصمت هو العقاب الأسوأ: أن تُحرم من حق رواية ألمك بلسانك. كل شخصية بشرية تقابل الدمية تتحول تلقائياً إلى مرآة. لا أحد يسألها من أنت؟ أو من أين أتيتِ؟ لأن السؤال أصبح بلا جدوى. المهرب يرى فيها بضاعة ثمينة يمكن بيعها لجامعي التحف، الطفلة السورية الصغيرة تراها صديقاً وحيداً فتجلس بجانبها وتُخرج لها كل أسرارها بلغة لم يعد أحد في المخيم يفهمها. والسائح الأوروبي يراها، فنّاً بدائياً أصيلاً، فيضع فلتراً أسود-أبيض ويصورها للإنستغرام. ورجل الأمن يراها جسماً غريباً مشبوهاً فيفتش تجاويفها بقسوة بحثاً عن شيء قابل للانفجار. لا أحد يرى إنساناً، الكل يرى شيئاً يخدم حكايته الخاصة. وهكذا تكشف الدمية عن المجتمعات أكثر مما تكشف عن نفسها. الجنابي يرفض منحنا أي لحظة كاثارسيس تقليدية. لا بكاء جماعي، لا لقاء عاطفي، لا خطاب أخير. حتى المشاهد التي تبدو إنسانية - كالطفلة التي تضع وردة في يد الدمية - تنتهي بسرعة وبقسوة: تأتي أم الطفلة وتسحبها بعيداً والوردة تسقط وتُداس. لا يوجد أمل مصطنع، لأن الأمل نفسه صار رفاهية لا يملكها من تحول إلى خشب. الرحلة مستمرة بلا نهاية واضحة، تماماً كتجربة ملايين المهجرين الذين لا يعرفون إن كانوا سيغرقون غداً أم سيُعاد توطينهم أم سيُحرقون في مخيم أم سيُنسَون ببساطة. في اللقطة الأخيرة نرى الدمية ملقاة على شاطئ مهجور، الموج يقترب ببطء. لا موسيقى، لا تعليق، لا زووم درامي على وجهها الجامد. فقط صوت البحر وصوت الريح. هل ستطفو وتصل إلى شاطئ آخر فتبدأ الرحلة من جديد؟ هل ستتحلل؟ هل سيأتي أحد ليحرقها ليتدفأ؟ السؤال مفتوح، لأن المأساة ليست في الإجابة، بل في أن القرار لم يعد للدمية أصلاً. المصير صار ملكاً للريح والبحر والآخرين. بهذا المعنى، رجل الخشب 2023، هو فيلم عن استحالة رواية الهجرة رواية متماسكة في عالم يرفض أن يسمع، حين يُسلب الإنسان صوته وجذره وحركته الذاتية، يتحول إلى مادة خام في يد الآخرين، قطعة خشب يمكن نحتها أو كسرها أو رميها في النار. والفيلم، ببساطته القاسية وصمته المدوّي، يجعلنا نشعر بهذا التحول في عظامنا، لا في عواطفنا فقط. يأتي هذا العمل ليذكّرنا بأن أعمق ألم ليس في الصورة الصارخة، بل في الصمت الذي يليها. صمت الإنسان الذي صار شيئاً، ومع ذلك ما زال - بطريقة ما - ينظر إلينا.