قراءة في تجربة الشاعر خليف الغالب..

الإنسانُ نصّاً.

المعنى بين المجاز والحقيقة تتبدّى الصحراء في تجربة الشاعر خليف الغالب كوجودٍ نفسيٍّ أكثر منها كوجودٍ واقعيٍّ، فهو قد فقدها، أو كاد، وإن كان يُحاول استدعائها عبر تجربته الشعرية. وبما أنّ لكل أرضٍ سماءً كما يقول الشاعر: “وللأرض دوماً سماءْ”، وبالرغم من اتّساع هذه الصحراء يُسمّي خليف الغالب ديوانه الأول “سماواتٌ ضيّقة” كعتبة تناقض “فندرك أننا أمام حساسيّة معرَيّة ترى الضيق في السعة، والوحشة المختبئة خلف الأُنس، وتهجس بالصمت الكامن في الكلمات الثرثارة، وقد يفوتك المعنى تماماً إذا تعجّلت ووصفت هذا بالتشاؤم” ( قمرٌ في أقاصي الكلام ـ سامي العجلان) ،والحقيقة أنّ نصوص دواوين خليف الغالب أبعد ما تكون عن مجرّد التشاؤم، إنها رهانٌ محفوفٌ بالمخاطر على الإنسان الذي يتأرجح بين الحقيقة والمجاز باحثاً عن كلّ شيء، وليس هو عجز عن التعبير، وتورّط في لغةٍ لا تلمس ما يعتمل في صدر نبيٍّ لما ليس يدري به، إلا أنّ الشاعر يُلحّ على فكرة كونه مجازاً منذ النصّ الأول في “سماواتٍ ضيّقة”، يقول: مجـــازيّاً خُلقتُ .. كأيّ شعـــرٍ فكيف أعيش في زمنٍ حقيقيّ؟! فلا تعرف للوهلة الأولى هل يؤكّد الشاعر حقيقة الزمن هنا أم ينفيها، في ظلّ أنّه يكاد يتيّقن من كونه مجازاً منذ بدء الخلق، واللافت أنّه يتغيّا هذا المعنى بين الحقيقيّ والمجازيّ في نصّه الأول أيضاً، ولكن من ديوانه الثاني “صحراء لا ترى”، حيث يقول: كلّنا نمضي مجـــــــازاً هــــائماً ليس في أرواحنا شخصٌ حقيقي هنا يتجاوز فكرة الزمن، إلى الإنسان ذاته، ويعمّم الصورة كمن توصّل إلى قناعةٍ تامّةٍ، إلى أنّنا محض مجاز ولا حقيقيّ في أرواحنا، وإن كانت كلمة “شخص” تحدّ من عمق الصورة التي يريد لها الشاعر أن تُمثّله، ويؤمن بها. يُراوغ هذا المجازيّ الحقيقة عبر تجربته كلّها لعلّه يحظى بها، ولكن: “ أين الحقيقة، لا حقيقةُ كلّ ما زعموا: كلام!” كما يقتبس من العقّاد في عتبة إحدى قصائده. يقف الإنسان في تجربة خليف الغالب بين الغياب والحضور، يختلط الأمر أحياناً: لنرى الحضور بلا حضورٍ والغياب بلا غيـــابْ لكنّ الحضور في النهاية يتماهى إلى غيابٍ لأنّ الإنسان يرفض هذا الحضور، يقول: خليليّ إنّ الحضور: غيابٌ إذا شـــارف الانتهـــاء ابتدا والسؤال الذي يمسّ الخاصرة: ما الحقيقيّ الذي يبحث عنه الإنسان في تجربة خليف الغالب بين الغياب والحضور؟ ولماذا المجاز يكاد يكون نقصاً وعقبةً في سبيل أن يحيا الإنسان حياةً تليق به؟! يُعالج خليف الغالب موضوع الصحراء بخصوصيّةٍ نافرةٍ عن أن تكون، ماءً وظمأً، رحيلاً ووطناً، رملاً ومطراً. تُستدعى الصحراء عنده كإنسانٍ له طقوسه وعاداته وهواجسه وحرّيته و ...... كرامته!. وهذه البداوة التي تتلبّس إنسان الصحراء ليست شكلاً ولا زيّاً ولا حتى إحداثيّات موقعٍ ما، إنّها الإنسان نفسه، يقول: ولا وطـــــنٌ يلــــوح لغير عيني ولا مالٌ ســــــــوى أكوار نوقي أجــــــوع وكلّ أحــلامي جياعٌ وأظمـــــأ حينما يظمــــا رفيقي وعن جوع الضيوف أعيذ وجهي وإن ضحــــيت بابني أو شقيقي نبيٌّ للخســـــــارة، فوح هيـلي يُنادي الأرض: يا أرضـي أفيقي فإن ترني فقير المـــــــال، إنّي مليءٌ بالبــــداوة يا صـــــديقي نرى من خلال هذه الأبيات كيف يتكثّف الإنسان داخل هذه البداوة، فلا انفصال بين البداوة كمعطى وجوديّ وبين البداوة كمعطى نفسيّ، الإنسان هنا حضورٌ كأنّه الغياب، وغيابٌ هائلٌ في الحضور، ظمأ الضيف ظمئي، وجوع الضيف يستلزم الوفاء والتضحية، وأنا لست بدويّاً، أنا مليءٌ بالبداوة، أنا الإنسان، إنسان البداوة ذاتها. ويتعدّى الأمر كثيراً أن تكون البداوة بضع عاداتٍ يحاول الإنسان الحفاظ عليها، إنّ البداوة في عمقها الذي يستحضره الشاعر ويؤّكد عليه، هي الحريّة، الحريّة في ألا تنحني، الحريّة في أن تقول “لا”، الحريّة في أن تُمارس العصيان ـ من خلال الشعر ـ ضدّ كل شيء، يقول: يا سيد الأزد شعري لا يُطاوعني أفق لكي تملأ الأشعار عصيانا يهجس خليف الغالب بكتابة إنسانيةٍ حرةٍ عبر صحرائه وبداوته، الإنسان حُراً هو النصّ، النصّ الذي يبحث عن معناه بين الحقيقة والمجاز، يقول: كن حرّ نفسك في الحياة ولا تكن عبداً لشيءْ ويسرد تفاصيل سيرته، وهو يرثي الحب والوجع واللغة والبداوة والموت، يقول: ســـلاماً على لغــةٍ لا تُمـاري إذا كـذبت في العيـــون اللغـاتْ سـلاماً على الحرّ حين يشيب وإصبعـه في وجــــــوه الطغــاةْ أما في نصّ “بداوة”، الذي يشبّه فيه البداوة كالحياة الحقيقية أو كالحرية لا فرق، يقول: سأعيش مع البدو منذ اليوم ...... ....... بدويّاً يا أمّاهُ كالريح كالحجر كالسماء بدويّاً يا ربّي كالحياة الحقيقية كالحريّة سأعيش مع البدو منذ اليوم أحيا بكلمةٍ وأموت وهذه الحريّة ليست سمةً من سمات كائن الصحراء، بل هي لصيقةٌ به، تكاد تكون هو، ويرجو أن تشمل كل ما يحيط به. تجده متضامناً مع كل الكائنات في سبيل هذه الحريّة، الحريّة الداخلية، لا على هيئة سلوك فحسب بل كنسغٍ لا ينفكّ عنه. يقول في نصّ نثريّ، ربما قد يتناسب عنوانه “تضامن” مع نثريته، يقول: يتضامن مع كلّ شيء مع وردةٍ كانت الريح أقوى من غصنها مع صمتٍ يوشك على التمزّق مع كلمةٍ هجرها أهلها بعد أن مات الكبار مع كتابٍ عميقٍ بين يدي تافه مع نجمةٍ ماتت منذ ألف سنةٍ ولا تزال تبتسم مع فكرةٍ تخشى الخروج من رأس صاحبها مع ذرّة ترابٍ فارقت أختها ساعة العاصفة مع شخصٍ يريد ولا يريد مع السؤال الذي يبحث عن رجلٍ شجاع مع الجواب الذي ينتظر سؤاله .. ما جاء مع الوقت، لا يدري أيمضي أم يُمضى به مع هذا الشيء الذي يحتلّ جسده منذ ثلاثين سنة كيف ـ عبر الشعر ـ يحصل هذا الإنسان الحرّ على الحقيقة، في ظلّ مجازٍ يكتنف اللغة، ويهذّبها، ويميل بها، هل يتستّر الكائن خلف اللغة بمجازٍ يمرّ ولا يخدش، يهمس ولا يصرخ. هذا المجاز الذي هو ضدّ الحقيقة، وإزاحةٌ لها، هو ما يُسمّيه خليف الغالب “شجاعة الاستعارات”، يقول: نحن الجبناء حين نصبح شعراء: سنختبئ وراء الاستعارات لكي تموت هيَ قبلنا ولذا نكاد نفهم كيف لخليف الغالب أن يُقرّر عن شعره أنّه لم يقل كلّ شيءٍ بعد، هنا ينطبع الشاعر بالإنسان، الإنسان النصّ الذي يريد أن يظلّ شاسعاً وواضحاً وحرّاً كالصحراء. هذا الشعر الذي لم يقُل بشكلٍ كافٍ أبداً، وهو ربما لم يصل بعد لمرحلة أن يكون شعراً، فما هو إلا نداء. نداء قلب، يقول: لم يكن شعري سوى قلبي يُنادي فيصبح على يقينٍ أنّه لم يستطع أن يفهم إلى الآن: ما زال في الصدر شعرٌ لستُ أفهمهُ وأعظم الشعــر حتى الآن مــا كُتبا من هنا فإن رحلة البحث عن معنى لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، في متناول المجاز ـ من غير أن نتفاجأ ـ واستعصاء الحقيقة، اختلطت الأشياء، يقول: فات الصواب وضلّ الحقّ وانسحبت نفسي من الناس لما حظّهـــا فـــاتَ بحثت عن جهتـــي في كل ذي وتدٍ وجــزتُ ما جـــزتُ ميقاتاً فميقاتا بحثَ في كل الجهات، ولم يصل إلى المعنى، يقول: لا أرض تحمل أثقـالي لأقصدها أمشي فلا أصـل المعنى ولا أقفُ وأقسى ما يعبّر به بُعد هذا المعنى عند التصاق إنسانيته بصحرائه بكلّ عمق تفاصيلها، يقول: هذا شداد بعيري، ذا هــواء أبي هنا سمــــاواتنا الأولى وذكــراها أتيتُ من مـدن التاريخ محتــرقاً متى ستمنحني الصحراء معناهـا أين الحقيقة التي يبحث عنها هذا الإنسان في تُخمة مجازٍ لا يقول، ولا يُقاوم إلا بالصمت؟!، إنّ الشاعر يجد طريقين اثنين للانعتاق: الموت والحبّ، واللذان لا يأتيان دائماً متى نشاء، يا للعجز، ويا للحسرة! يمرّ الشاعر بخيطٍ خفيٍّ إلى الماضي عبر استدعاء الآباء والأجداد والأسلاف في أكثر من موضع، يتشبّث بهم، يستحضرهم، وحتى حين يستلهم شخصيّات تراثية فهو ينتقي بعناية من يُمثّل حرّية الإنسان فيه، نراه حين يستلهم بيتاً للشنفرى في نصّ “حزن صعلوكٍ متأخّر” لا يستلهم إلا بيت الشنفرى الذي يقول: وأستفّ تُرب الأرض كي لا يرى لهُ عليّ من الطـــول امـــرؤٌ متطــــوّلُ وفي النصّ انحيازٌ للموت لا تخطئه العين، يقول: “أقم صدور” المنـايا لستُ ندمــانا “قد حُمّت” الأرض أشـواقاً لموتانا ضاقت دروبٌ من الأحلام نعرفها وأسفر الموت في هزلى مطــــايانا إلى أن يقول: نمضي على العهد علّ الموت يُنقذنا في صحبة الليل نُذكي نار نجــوانا ويُمهّد لرؤيته التي اكتملت حيال الموت في “صحراء لا ترى”، يقول: جليد الحقيقة قاسٍ، أموتُ لكي أكســـر المـاء، موتي: سُـــــدى وجدتُ الفـؤوس هنا في الضميـر ولكنني مــا وجـــــــدتُ اليدا لكنّه لا يلبث أن يعترف ـ بعد ذلك بقليل ـ علانيةً، يقول: شبح الحياة يمرّ في غــرفي فأرى الحقيقة بين أمواتي ولا يسهو بالطبع عن ربط الموت بالشرف لأنّ إنسان الصحراء يعيش ويموت حرّاً، يقول: فإن خُيّرت في الميتات فاختر ميتة الشرفِ ولكن، فإن!، فالموت لا يأتي كما نشاء. أمّا عن الحبّ، فهو ينتظره، ويستدنيه في أغلب قصائده، يستدنيه لأنه هناك في البعيد، ويُخيّر هذا الحبّ بين “تعالي” و “خذيني”، لكنّه يظلّ بعيداً وحقيقيّاً دائماً، يقول: حبيبتي هـذه الدنيا تُحــــــاصرني هيّا خذيني شتاتاً، باكيـاً، طــــرِبا مستوحشاً، هادئاً، حـرباً بلا سببٍ وجئتُ عينيكِ هل ألقى هنا السببا؟! ويؤكّد أنّها حقيقته رغم ضيق السماوات، يقول: لو كنتُ أعرفهـــــا حقّاً لقلتُ لها حقيقتي أنتِ، ها ضاقت سماواتي مضيت في العمـر لا روحٌ ولا جسدٌ لم تنتصر فيَّ أنهــــار البدايـــاتِ حيٌّ، معي سـرب أمــواتٍ وأسئلةٌ يا ربّ أثقل ظهري حمـل أمواتي هي الحياة الحقيقية التي في مقابل الموت والأسئلة، هي ضدّ الموت، لكن لو كان يعرفها حقّاً، يصرّ على جعلها هناك، لا مشيئة له إلا المضيّ، حيٌّ ولكن يحمل على ظهره كل الأموات عمداً، الأجداد والأسلاف والشخصيات الأثيرة بالنسبة إليه تمرّداً وخروجاً عن النصّ، ولا أعتقد أنّ ذلك يُثقل ظهره كما يقولّ! ويترجّى حدّ الإشفاق، يقول: جئتُ إليكْ شقيتُ بدنيايَ عمراً مليئاً برائحة الزمن المكفهّر بطعم الحماقةْ بقيتُ أسامر أطياف كونٍ توشّحه مفردات الصفاقةْ وجئتُ إليكْ وإذا تتبعنا المقاطع الثلاثة السابقة، نجد أنّ الأنثى/ الحبيبة هي البديل المتوخّى سواءً: عن الدنيا أو العمر أو الحياة، هذا الأنثى التي يحاول بها الانتصار على الموت، وهي ذاتها التي لا يعرفها حقّاً! يريد لهذه الأنثى أن تحرّره، يقول: وجـــــوديّاً أجيء بفيض أنثى تحـــــرّرني: لكي أبقى وليدا لنتبع علّة الأشيــــــــــاء غيّاً ونجمــــع حلمنا ألقـــاً عنيدا ونبكي بعضنا: وطناً مضـــاعاً لكي يهب البكاء لنا الخلوداً هذا التحرّر على يد أنثاه، ربما يستعيد به صحراءه وبداوته، وحرّيته، يقول: لا قلب لي، كــي أستعيد بداوتي وأثور في وجهـــي وأقتل غايتي فهل يستعيد بداوته حقيقةً، أم لا يعدو ذلك أن يكون محض مجازٍ لا أكثر. المأزق أنّ الرهان على ذلك كلّه ليس النصّ بل الإنسان!