عملاق أمام الجيوش وقزم أمام المليشيات.
إذا تأملنا المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط من منظور يستلهم روح الواقعية الهجومية، يُمكن القول إن إسرائيل تبدو، في هذه اللحظة التاريخية، بمثابة قوة مركزية متضخّمة تختزن من عناصر التفوق ما يسمح لها بالتموضع على رأس البنية الإقليمية بغير منازع. فالمسألة لا تنحصر في الكمّ العددي للقدرات العسكرية، بل في طبقات متشابكة من البنى القتالية التي راكمتها على مدى عقود؛ بدءاً من الطائرات الخفية F-35I Adir المصممة لتلبية احتياجاتها الخاصة، مروراً بأنظمة الدفاع الصاروخي التي تتوزع على مستويات متعددة، وصولاً إلى القدرة الردعية القصوى التي تمثلها ترسانتها النووية، تلك القوة الثقيلة التي تظل حاضرة في خلفية المشهد وإن آثر الخطاب السياسي ألا يصرّح بها مباشرة. إن هذا التكوين العسكري المتراكم، بتعدد مستوياته ومصادره، يمنح إسرائيل مظهراً أقرب إلى الكيان المهيمن الذي جرى تشكيله بعناية ليبقى في موقع التفوق المطلق داخل البيئة الإقليمية. فعلى امتداد أكثر من سبعة عقود، انخرطت الولايات المتحدة وإسرائيل في عملية تراكمية معقّدة استُثمرت فيها موارد سياسية وعسكرية ومالية ضخمة، جرى توظيفها لإيجاد بيئة استراتيجية تُبقي إسرائيل في موقع التفوق الحاسم داخل الإقليم. وقد تمحورت هذه العملية حول ضمان ما تسميه التشريعات الأمريكية التفوق العسكري النوعي، وهو مفهوم صيغ ليحفظ لإسرائيل قدرة ثابتة على تجاوز أي قوة عربية تقليدية، فردية كانت أو مجتمعة. وفي جوهر هذا الترتيب، كان الهدف واضحاً ومستقراً: توفير مظلة تفوق تمنح إسرائيل القدرة على حسم أي مواجهة مع جيوش عربية نظامية في حرب مفتوحة، بحيث تُحسم المعادلة قبل أن تتمكن الأطراف الأخرى من مراكمة توازن مضاد قادر على تهديد مكانتها العسكرية. غير أنّ المفارقة اللافتة، التي تشقّ قلب المشهد الاستراتيجي اليوم، تتمثل في أنّ هذا البنيان العسكري الهائل يقف عند عتبة مأزق وجودي لم يسبق أن واجهه من قبل؛ فالتجهيزات التي صُممت لسيناريوهات يوم القيامة ولحروب فاصلة تُحسم على أرض مكشوفة، تبدو اليوم مكبّلة أمام نمط قتالي لا يخضع لقواعد الحرب التقليدية. فالدبابة المتقدمة التي وُضعت لتخترق السهول المفتوحة، وتزوّدت بأنظمة حماية تُعد من الأحدث في عالم الدروع، تُضطر إلى التحرك في مساحات حضرية خانقة، حيث يتحول القتال إلى مطاردة لخصم يتوارى في الأزقة والأنفاق ويختفي بين السكان. وفي المقابل، تُستنزف منظومات الاعتراض الصاروخي ذات الكلفة الباهظة في إسقاط قذائف بدائية لا تتجاوز قيمتها جزءاً يسيراً من ثمن الصاروخ الذي يعترضها. وهكذا ينتقل فائض القوة التقنية، الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة حاسمة، إلى عبء استراتيجي يرهق الدولة اقتصادياً ومعنوياً، ويدفعها إلى خوض جولات قتال لا نهاية واضحة لها، ولا إطاراً زمنياً يضبط اتساعها. ولفهم هذا العجز الذي تتبدّى ملامحه اليوم في أداء المنظومة الأمنية الصهيونية، لا بد من العودة إلى البنية الأولى التي تشكّل فيها وعي الدولة بذاتها وبمحيطها، أي إلى الوثيقة التي صاغها دافيد بن غوريون عام 1953، والتي مثّلت بمثابة الإطار المؤسِّس للعقيدة الأمنية. فقد نشأت هذه العقيدة في بيئة تميزت بانعدام حاد للتوازن؛ دولة ناشئة لا يتجاوز عدد سكانها آنذاك مليوناً ومئتي ألف نسمة، محاطة بجوار عربي واسع يتفوق عليها في الحجم الديموغرافي والمساحة والموارد، وتواجه حدوداً طويلة ومتعرجة يستحيل الدفاع عنها دفاعاً ثابتاً، لاسيما فيما عُرف حينها بـالخصر الضيق الذي لم يكن يتجاوز خمسة عشر كيلومتراً في أضيق نقاطه. أمام هذا الواقع، صاغ بن غوريون، بالاستناد إلى مشورة يغائيل يادين، ما عرف لاحقاً بعقيدة الأمة المسلحة، القائمة على ثلاثة أعمدة مركزية أصبحت بمنزلة جوهر التفكير الاستراتيجي الصهيوني. فكان العمود الأول هو الإنذار المبكر، حيث رأت الدولة أنها، لاعتمادها على جيش الاحتياط بوصفه القوة الرئيسية، تحتاج إلى معرفة نوايا الخصم قبل 48 ساعة على الأقل؛ لأن عدم توافر هذا الهامش الزمني يعني العجز عن استدعاء القوات وتعبئتها في الوقت المناسب. وقد ولّد هذا التصور هوساً متصاعداً بالتفوق الاستخباراتي، وجعل من جمع المعلومات وتحليلها حجر الزاوية في المنظومة الأمنية. أما العمود الثاني فتمثل في الردع التراكمي، وهو تصور يقوم على إيقاع ضربات قاسية وقوية على أي فعل عدائي، لتثبيت قناعة بأن كسر إسرائيل أمر يتجاوز قدرة خصومها، بما يدفعهم في النهاية إلى التسليم بوجودها كأمر واقع. وجاء العمود الثالث، وهو الحسم السريع، ليجسّد قناعة راسخة بأن إسرائيل، بسبب ضيق مساحتها وضعف قدرتها على تحمّل حروب طويلة، لا يمكنها خوض معارك تستنزف الوقت، بل يتعين عليها نقل الحرب إلى أرض الخصم بسرعة وتدمير قدرته القتالية في أقصر مدة ممكنة، لا بهدف احتلال الأرض، بل بغرض انتزاع وقف إطلاق نار من موقع تفوّق كامل. وفي مرحلة لاحقة، وفي ظل تحولات البيئة الإقليمية خلال الثمانينيات، أضاف مناحيم بيغن ركناً رابعاً غير معلن، يقوم على منع أي دولة معادية من امتلاك سلاح يمكن أن يغيّر معادلة القوة، وهو ما جسدته الضربات الجوية التي استهدفت المشاريع النووية في العراق عام 1981 وسوريا عام 2007، لترسيخ مبدأ أن التفوق النوعي لإسرائيل يجب أن يبقى بمنأى عن أي تهديد استراتيجي محتمل. وقد بلغت هذه العقيدة ذروة تجسدها العملي في حرب عام 1967، حين نفّذت إسرائيل، بصورة تكاد تكون حرفية، مبدأ الضربة الاستباقية ونقل المعركة إلى أرض الخصم، فتمكنت خلال ستة أيام من تفكيك البنية القتالية لثلاثة جيوش عربية دفعة واحدة. غير أن التاريخ العسكري يبين مراراً أن الانتصارات الساحقة لا تقل خطورة عن الهزائم، لأنها كثيراً ما تورث إحساساً بالتفوّق المطلق وتدفع إلى جمود فكري يحجب التحولات المقبلة. وهذا ما حدث فعلاً؛ إذ أصاب ذلك النجاح المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بنوع من العمى الاستراتيجي، فترسخت قناعة بأن السيطرة الجوية والدروع الثقيلة قادرتان على معالجة أي تهديد، بصرف النظر عن طبيعته أو سياقه. وبينما انشغلت تل أبيب بتطوير حدودها، وإقامة منظومات من التحصينات الإلكترونية والمراقبة الذكية التي ظنت أنها قادرة على عزل الخطر بدل تفكيكه، كان خصومها يعيدون قراءة المشهد بعيون مختلفة. ولست هنا بصدد مناقشة طبيعة هذه المليشيات أو مصادر تسليحها وداعميها، بقدر ما أسعى إلى تفسير الفشل الاستراتيجي الإسرائيلي في تقدير خطورتها واستيعاب التحول البنيوي في نمط الصراع العربي–الإسرائيلي. فقد أدركت هذه المليشيات مبكراً أن خوض حرب تقليدية متكافئة مع إسرائيل هو مسار يقود إلى الهزيمة المحتمة، فتحولت تدريجياً إلى نمط قتال غير متكافئ، خارج إطار الجيوش النظامية، معتمدة تشكيلات هجينة تمتلك تسليحاً نوعياً يضاهي قدرات الجيوش الحديثة. وبفعل هذا التحول الجذري، انتقلت ساحة الصراع من الفضاء المكشوف إلى بيئة عمليات مختلفة تماماً: فبدلاً من القواعد العسكرية ظهرت شبكات الأنفاق التي تمتد كمدن تحت الأرض، وبدلاً من الدبابات الثقيلة جرى الاعتماد على صواريخ رخيصة تُطلق بكثافة لاستنزاف منظومات الاعتراض الإسرائيلية، وبدلاً من مراكز الثقل التقليدية اختفت البنى الصلبة وذاب المقاتلون في قلب الحاضنة الشعبية، في ما يشبه—وفق توصيف الجنرال روبرت سميث في كتابه جدوى القوة: فن الحرب في العالم المعاصر—حرباً تُخاض «بين الناس» لا على تخوم الجبهات. هذا التغيير البنيوي في شكل الصراع جعل القوة النارية الإسرائيلية أقل جدوى، ودفع المؤسسة العسكرية والسياسية، في محاولتها استعادة وهم السيطرة وإعادة تعريف مفهوم النصر، إلى تبني مستوى من القوة التدميرية الشاملة بلغ حدّ الإبادة المنظمة، في محاولة لفرض نتيجة ميدانية تتجاوز حدود المنطق العسكري ذاته، وهو ما تناولتهُ في دراستي العلمية المنشورة بعنوان “الإبادة الجماعية المنظمة كهدف للحرب الحديثة: العدوان على غزة – دراسة حالة”. واليوم، ومع انحسار وتيرة القتال وتكشّف الصورة بعد توقّف العمليات الواسعة، يتبيّن بوضوح أنّ الأعمدة التي قامت عليها عقيدة بن غوريون قد بدأت تتهاوى واحداً بعد الآخر تحت ضغط تكتيكات المليشيات. فأول ما سقط هو مفهوم الحسم؛ فمع تغيّر نمط الصراع وظهور خصوم يعملون كشبكات متجددة، حاول رئيس الأركان غادي آيزنكوت في وثيقة الجيش لعام 2015 خفض سقف توقعات الحسم وإعادة تعريفه بما يتيح تطبيقه على بيئة قتالية لا تشبه الحروب النظامية، مؤكداً أن إسرائيل ستكون قادرة على إحداث تغيير ملموس وفوري في قدرات الخصم ومنعه من الهجوم أو إعادة تنظيم صفوفه بسرعة. لكن مجريات الواقع نسفت هذا التعريف بالكامل؛ ففي غزة امتد القتال أشهراً طويلة على نحو يناقض جوهر الحرب الخاطفة، واستمرت الصواريخ، وتمكّن الخصم من إعادة تنظيم نفسه مراراً، ولم تستطع إسرائيل تكوين ما يمكن تسميته صورة النصر، لأن محاولة تحقيق حسم عسكري ضد فكرة أو شبكة متجددة هو مسار يتجاوز قدرة الأدوات العسكرية ذاتها. وأما الردع، وهو العمود الثاني في العقيدة، فقد أصابه التآكل. فالردع التقليدي يفترض خصماً يمتلك بنى واضحة ومراكز حساسة يمكن استهدافها لإحداث أثر رادع. غير أنّ المليشيات التي تواجهها إسرائيل اليوم لا تتحرك وفق هذا المنطق؛ فهي تعمل ضمن شبكات مرنة، ولا ترتكز إلى بنى ثابتة يمكن ضربها لفرض كلفة طويلة المدى. ولهذا لم تُجدِ الضربات الواسعة التي نُفذت في الحروب السابقة في الحدّ من قدرتها على إعادة تنظيم صفوفها أو استعادة قوتها الصاروخية. ومع مرور الوقت، انحدر الردع الإسرائيلي من مرتبة استراتيجية مستقرة إلى مستوى تكتيكي محدود، لا يلبث تأثيره أن يتلاشى مع كل جولة جديدة من القتال. وجاء الانكشاف الأكبر في ركن الإنذار المبكر، وهو حجر الأساس في عقيدة الدولة منذ نشأتها. فقد كشفت أحداث السابع من أكتوبر عن خلل عميق في الاعتماد المفرط على الوسائط التقنية وإهمال الاستخبار البشري وفهم سياق الخصم. فالجدار الذكي الذي أنفقت عليه اسرائيل مليارات الدولارات انهار أمام أدوات بدائية؛ طائرات شراعية ودراجات نارية، في مشهد مثّل سقوطاً مدوياً لأسطورة المجمعات المحصنة التي اعتقدت إسرائيل أنها تمنحها سكينة دائمة. ولم يكن الدعم الأمريكي، الذي ظل على الدوام صمام الأمان المالي والتقني لإسرائيل، بمنأى عن التأثير السلبي غير المقصود. فالتكنولوجيا الدفاعية المتقدمة، وفي مقدمتها منظومة اعتراض الصواريخ، صحيح أنها لعبت دوراً أشبه بمسكن للألم؛ إذ خفّضت كلفة الصراع على الجبهة الداخلية الإسرائيلية وأعفت السياسيين من مواجهة الأسئلة الجذرية التي لا مهرب منها، إلا أنه ازداد الاعتماد على سياسة إدارة الصراع بدل حله حتى تراكم هذا السلوك وتحول إلى ما يشبه حالة من الكسل الاستراتيجي انفجرت في النهاية دفعة واحدة. ولم يتوقف هذا الأثر عند إسرائيل وحدها، بل ارتدّ على الولايات المتحدة نفسها. فقد أظهر استطلاع حديث أصدره مركز جامعة كوينيبياك لاستطلاعات الرأي أن نسبة الأميركيين الذين يرون دعم إسرائيل جزءاً من المصلحة الوطنية تراجعت من 69% في أواخر 2023 إلى 47% فقط في سبتمبر 2025، فيما اعتبر 41% أن هذا الدعم لا يخدم مصالح بلادهم. وتراجعت صورة نتنياهو إلى مستويات غير مسبوقة من السلبية. وأدى ذلك إلى تشققات عميقة داخل البنية الديمقراطية الأميركية؛ إذ لم يكن الانقسام الذي برز بين عامي 2023 و2025 مجرد تراجع عام في الدعم، بل حالة استقطاب حاد لم تشهدها قضية في السياسة الخارجية الأميركية منذ حرب فيتنام. والأرقام هنا تتحدث بوضوح: فوفقاً لاستطلاع مؤسسة غالوب الصادر في أغسطس 2025، احتفظ 71% من الجمهوريين بتأييدهم للعمليات الإسرائيلية، بينما انهار هذا الدعم بين الديمقراطيين إلى 8% فقط—وهو ما أكده أيضاً تقرير معهد بروكينغز، الذي أشار إلى أن نسبة تأييد الديمقراطيين في بداية الحرب كانت 36% قبل أن تهوي إلى هذا المستوى الأدنى. إن الفارق البالغ 63 نقطة مئوية لا يعكس مجرد اختلافات سياسية عادية، بل يشير إلى أن قضية إسرائيل تحوّلت إلى “محدد حزبي” صلب يفوق في حدّته كثيراً من القضايا الأكثر حساسية داخل السياسة الأميركية. وعندما تصبح السياسة الخارجية قضية حزبية بامتياز، فإن استقرارها يغدو رهيناً للتقلبات الانتخابية بدلاً من أن يستند إلى حسابات استراتيجية ثابتة. وهذه الآثار مجتمعة تكشف أن الدعم غير المشروط لإسرائيل لم يعد مكسباً استراتيجياً لواشنطن، بل أصبح عبئاً سياسياً يضعف شرعية خياراتها الخارجية ويعمّق الانقسام الداخلي الأميركي بشكل كبير. ومع هذا الانكشاف الاستراتيجي، لجأت النخبة السياسية والأمنية الصهيونية إلى أدوات رمزية لتعويض صورة القوة، فاندفع النقاش نحو كتاب رئيس الموساد السابق يوسي كوهين «سيف الحرية: إسرائيل، الموساد، والحرب السرّية». وهو عمل يتجاوز كونه سرداً لعمليات استخبارية نحو محاولة مقصودة لإعادة ترميم صورة إسرائيل كقوة قادرة على اختراق الجغرافيا والعقول. فالتوقيت الدقيق لنشر الكتاب، واللغة التي يعيد بها إنتاج سرديات الذراع الطويلة والقدرة الخارقة للموساد، يكشفان حاجة ملحّة لدى النخبة الأمنية والسياسية لإحياء صورة إسرائيل التي لا تُفاجأ ولا تُخترق. غير أن هذا الجهد الترويجي، على زخمه، لا يخفي الحقيقة التي تكشفت على الأرض: أن الموساد، ومعه المنظومة الاستخبارية بأسرها، واجه حدوداً قاسية في قدرته على قراءة الواقع، ما جعل الكتاب أشبه بمحاولة لتعويض الفجوة بين صورة القوة المتخيلة ووقائع الانكشاف التي كشفتها الحروب الأخيرة. في المحصلة، تجد إسرائيل نفسها اليوم أمام معضلة وجودية من نوع لم تواجهه من قبل؛ فالسؤال لم يعد متصلاً بقدرتها على هزيمة الجيوش العربية، وهو سؤال حُسم عملياً منذ عام 1967، بل بات يتعلق بكيفية تمكن قلعة تكنولوجية محصّنة من الانتصار على شبكة عقائدية مرنة تتشكل وتتفكك خارج منطق الجيوش. لقد هيأت إسرائيل نفسها لمواجهة كبرى مع الدول، أشبه بملحمة فاصلة، بينما يجري استنزافها الآن ببطء عبر استراتيجية يمكن تشبيهها بـ«ألف جرح صغير»؛ فالمليشيات لا تُقاس قوتها بما تملكه من معدات ثقيلة، بل بما تملكه من قدرة على امتصاص الصدمات والصبر الطويل، وهو ما يفتقر إليه الخصم الذي يراهن على التفوق التقني وحده. وأمام هذا المأزق الوجودي الذي يضيق على إسرائيل يوماً بعد آخر، يتبدّى أن الطريق الاستراتيجي الوحيد المتاح للخروج من عزلة القلعة المحاصرة لا يكمن في المزيد من الحلول التقنية أو المغامرات العسكرية المنفردة، بل فيما يمكن تسميته التكيّف الاستراتيجي العميق. فالمنطق الجيوسياسي يفرض على صانع القرار الإسرائيلي الاعتراف بأن الحسم العسكري في مواجهة المليشيات أصبح وهماً مكلفاً، وأن الأمن المستدام يتطلب الانتقال من بناء الجدران التي تعزل، إلى إقامة جسور تمتد نحو البيئة الإقليمية. وعلى هذا الأساس، لم يعد السعي لتوسيع دائرة اتفاقيات التطبيع، ولا محاولة الوصول إلى تفاهمات شاملة مع القوى العربية السنية، مجرد طموح دبلوماسي أو خطوة نحو تحسين المكانة الدولية؛ بل بات ضرورة أمنية قصوى لبقاء الدولة. غير أن هذا المسار، على أهميته، مشروطٌ بشرط لا يمكن لإسرائيل تجاوزه: فالقوى السنية الكبرى، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، لن تدخل في أي ترتيبات أمنية أو سياسية تتجاوز جوهر «حلّ الدولتين»، ولن تمنح إسرائيل عمقاً إقليمياً أو شرعية محدثة ما لم يتحول هذا الحل إلى واقع ملموس. وقد تجلّى هذا الشرط بوضوح حين رفض ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان الطلب المباشر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمضي في التطبيع بمعزل عن مسار سياسي حقيقي لحل القضية الفلسطينية، وهو رفضٌ أعاد رسم معادلة النفوذ، بحيث وجدت إسرائيل نفسها—عبر ترامب نفسه—في موقع تستجدي فيه المملكة للموافقة على الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم دون تنفيذ حل الدولتين، فيما رسّخ هذا الموقف موقع الرياض بوصفها الطرف القادر على توجيه بوصلة الترتيبات الاستراتيجية المقبلة في الإقليم. ومن المرجّح، استناداً إلى المسار الاستراتيجي الذي تدفع الأحداث إسرائيل نحوه، أن تجد تل أبيب نفسها مضطرة خلال المرحلة المقبلة إلى التعامل مع «حلّ الدولتين» بوصفه ثمناً لازماً للاندماج في منظومة أمن إقليمي أوسع. فقبول هذا الشرط لن يصدر عن تحول أيديولوجي، بل عن إدراك براغماتي بأن المسار الإقليمي وحده قادر على ترميم موقعها الاستراتيجي المتآكل وفتح باب تقاسم أعباء الإنذار والردع مع شركاء آخرين، بعد أن أثبت الاستنزاف المنفرد داخل حدود ضيقة عجزه عن توفير أمن مستدام. وعليه، تبدو محاولة إسرائيل الانتقال من صورة القلعة الغربية المعزولة إلى موقع العقدة المركزية ضمن شبكة مصالح شرق أوسطية اتجاهاً مرجحاً لا خياراً سياسياً قابلاً للمساومة؛ فالمسار البديل لن يكون سوى إطالة زمن الانكشاف وتأجيل انهيار قلعة تتآكل من أطرافها ومن داخلها معاً. والدرس الاستراتيجي المستفاد هنا أن القلاع المحصنة، مهما علا بنيانها وتطورت تكنولوجيتها، لا تسقط بالضرورة بضربة قاصمة من الخارج، بل عبر الاستنزاف العملياتي المستمر وتآكل قوة الردع. وقد بيّنت التجربة أن العقيدة الاستراتيجية الصهيونية “الجدار الحديدي” التي نظّر لها جابوتنسكي وجسّدها عملياً عدوه السياسي بن غوريون، وإن كانت فعّالة في صد الجيوش النظامية، فإنها تقف عاجزة أمام خصوم يتسللون بين الجدران، ويتحركون خارج المسارات التي بُنيت العقيدة الإسرائيلية على افتراضها. وهكذا تتحول إسرائيل من قوة تعد نفسها لحرب خاطفة إلى دولة تحاول جاهدة سدّ شقوق تتسع مع الوقت، فيما تستنزفها مواجهات لا تُحسم ولا تنتهي. * باحث في العلوم السياسية Salanazias@gmail.com