فيلم «أحلام قطار» Train Dreams رحلةٌ فردية في قلب عالم مزدحم.
بعض الأفلام تشعرك عند مشاهدتها وكأنك تخوض تجربة روحانية خالصة أكثر من كونها متابعة لفيلم سينمائي جميل أو عابر، هذه النوعية من الأفلام تترك فيك أثرا بالغا لا يمكن نسيانه، هو عبور حقيقي إلى الجزء الآخر من العالم بل ورؤيته دون تزييف أو تنميق، لتكون المشاهدة رحلة تأملية آسرة تنصت إليها بكل حواسك، و هذه لأفلام التي أفتش عنها دائما لأعود إلى حقيقتي لأتلمس الطريق إلى روحي من جديد كلما ظللت الطريق و لن أبالغ أبداً إن قلت أن فيلمي اليوم هو من أجمل مشاهدات هذا العام ومن أجمل انتاجات نتفليكس على الإطلاق، وبقدر ما يبدو عنوانه عادياً يبتعد المضمون كليا عن العادية وهو فيلم (Train Dreams) كل مشهد في الفيلم لوحة فنية والفيلم يتوغل فيك كقصيدة بصرية لا يمكنها إلا أن تترك أثرها عليك. و في فيلم أحلام القطار لا يتحرك القطار على القضبان فحسب، بل تتحرك معه أرواح تبحث عن معنى وقلوب تحاول مصالحة ذاتها وأحلام تكبر في الصمت قبل أن تنطق بالحقيقة، و الفيلم ليس مجرد رحلة من محطة إلى أخرى بل هو عبور داخلي بين محطات الروح، كرحلة نحو تلك المنطقة العميقة التي نحتفظ فيها بكل ما لم نقلْه وكل ما لم نجرؤ على الاعتراف به لأنفسنا، وكأنه يمسك بيد المُشاهد بلطف ثم يقوده إلى مرآة غير مألوفة مرآة يرى فيها نسخته التي تركها وراءه، ونسخته التي يتمنى الوصول إليها ليغدو القطار هنا رمزًا للزمن الذي لا ينتظر أحدًا بل يمضي إلى الأمام لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه لا يعرف طريقًا آخر، ومع ذلك يذكّرنا الفيلم أن الركوب في هذا القطار ليس قدرًا أعمى بل هو اختيارٌ مستمر. الفيلم من بطولة (جويل إدجيرتون) و(فيليسيتي جونز) و إخراج(كلينت بنتلي) ، بناء على اقتباس من رواية قصيرة كتبها “دينيس جونسون” ويدور الفيلم حول «روبرت جرينييه» هو حطّاب وحمّال يعمل في بناء السكك الحديدية والغابات، وسط بيئة قاسية ومتقلبة و يعيش حياة بسيطة وهادئة ظاهريًا، لكنه يحمل في داخله عمقًا لم يُقم على أساس من الراحة أو الغنى، بل على صرامة الحياة وصعوبة الظروف، تتقاطع حياته مع الحب عندما يلتقي بزوجته ( فيليسيتي جونز)، فتبدو الحياة وكأنها تمنحه لحظة إنسانية دافئة وسط هذا الركض الوحشي، لكن برغم الحب تبقى الوحدة و الفقد يبقى الحنين إلى الأمل بكل الصراعات الداخلية، وربما الخوف من مستقبل مظلم كل هذا يرافق بطلنا، بعد أن عرف طعم الحياة والحب وعرف معنى أن يكون هناك من ينتظره دائما عند عودته، معنى أن يكون أباً، ويشاهد طفلته التي تخطو خطواتها الأولى وتنطق حروفها الأولى، ويتأكد أخيراً أن السفر فوت عليه الكثير من اللحظات التي كانت تنمو فيها صغيرته بعيداً عنه، ليقرر أن تكون هذه الرحلة رحلته الأخيرة والتي سيعود منها حاملاً المال الكافي ليبدأ عمله الخاص، لكنه حين يعود لن يجد أحداً في انتظاره ، ينشب حريق عظيم في الغابة يلتهم كل شيء بما في ذلك منزله الذي تحول إلى رماد، ويستمر في البحث عن زوجته وطفلته دون أمل لكنه يقرر أن ينتظرهما في ذات المكان إلى الأبد. و الفيلم لا يقدّم مجرد سرد درامي بل تجربة إنسانية عميقة و رحلة داخل النفس قبل أن تكون رحلة عبر السكك الحديدية، وكأنه يعيد إيقاظ شيء بداخلنا شيء قد خفت صوته في ضجيج العالم ليفتح باب التساؤل عن الحُرّية، الانتماء، الانعزال، الحنين، الروح، والحياة التي لا تُقاس فقط بما نعيشه بجسدنا، بل بما نحمله في قلوبنا وعقولنا، و من أجمل ما يقدّمه أحلام قطار هو هذا التباين الحاد بين حياة الإنسان في وحدته وبين حياته عندما يدخل في منظومة المجتمع. البطل حين كان في عزلة بين الغابة والعمل والهواء المفتوح يعيش حياة بسيطة، خفيفة، غير متكلّفة. فنياً جاءت حركة الكاميرا انسيابية وهادئة، تعتمد على التتبع البطيء الذي يعكس إيقاع الحلم وامتداد الزمن، مع لقطات ثابتة طويلة تُشعرك بأنك داخل تأمل مستمر، فالحركة لا تركّز على الحدث بقدر ما تكشف انفعالات داخلية وشاعرية المكان، كما يعتمد الإخراج على البساطة المُحكمة التي تظهر في اللقطات، و بإيقاع مدروس يسمح للصمت بأن يكون عنصرًا سرديًا، المخرج يضع الشخصيات داخل فضاءات واسعة ليبرز عزلتها، و الإضاءة طبيعية وناعمة، تميل إلى التدرجات الدافئة في اللحظات الإنسانية، وإلى الخافتة الضبابية في المشاهد التأملية، مما يخلق إحساسًا بعالم معلق بين الواقع والحلم، التكوينات البصرية تعتمد على خطوط السكة كرمز للاتجاه والمصير، القطار في الفيلم ليس مجرّد وسيلة نقل بل هو رمز لزمن لا يرحم و لا ينتظر، فهو يحمل الإنسان من محطة إلى أخرى و من مآل إلى مآل، الرحلة بالقُطار تشبه رحلة الروح في الحياة الفيلم لا يروّج للحب كخلاص دائم بل يستعمله كمرآة فالحب يجعله يرى ذاته، يرى حُلمه وبؤسه، يرى ذاته التي تشتاق إلى معنى، وهنا يصبح الحب ليس فقط مشاركة جسدية أو يومية، بل تلاقح أرواح، سؤال عن ما يعني أن تكون إنسانًا، الفيلم يهبط بك بهدوء إلى صمت الشخصية الصمت الذي لا يُقال فيه، والحزن الذي لا يُعبر عنه، هذا الصمت ليس فراغًا، بل مساحة للحلم و التأمل، للتساؤل عما بعد الألم؟ ما بعد النضال؟ ما بعد الصمت؟ ربما شكل من أشكال الرجاء، أو ربما بداية لولادة داخلية، الفيلم لا يمنحنا إجابات جاهزة، بل يوقظ فينا أسئلتنا الخاصة، وفي لحظات الفيلم الهادئة، ندرك أن الحياة ليست سباقًا وأن المعنى لا يُعثر عليه دفعة واحدة، بل هو شيء يتشكّل على مهل بين نظرة صادقة وندم خفيف وصمت طويل يشبه الاعتراف، (روبرت) لم يكن يمتلك الكثير، لكنه كان يمتلك الانسجام مع ذاته، كان يسمع صوته الداخلي دون تشويش، فيعيش وفق إيقاعه الخاص، لا وفق توقعات أحد، العزلة في الفيلم ليست هروبًا، بل عودة إلى الجوهر، ففي وحدته لم يكن مضطرًا لتمثيل دور، أو حمل قناع، أو الانحناء لقيم ليست قيمه، كانت الحياة صعبة نعم لكنها صادقة، متسقة، بلا تزييف، لكن عندما يقترب من المجتمع بقوانينه وقيمه ومفاهيمه نرى كيف تبدأ الروح في التقلّص قليلًا، فالمجتمع، بقصد أو دون قصد، يزرع في الإنسان توقعات وصورًا وأدوارًا جاهزة كيف يجب أن يكون و ماذا يُفترض أن يحلم به و ما الذي يستحق أن يُقاتل من أجله، وما الذي لا يجوز الاعتراف به أو إظهاره، وبينما يتحرك البطل داخل هذه المنظومة، يشعر المشاهد بأن شيئًا من نقائه الأول يتعرض للضغط، ليس لأن المجتمع سيّئ بحد ذاته بل لأنه يملك قوة تشكيلية هائلة، قد تُعيد صياغة الإنسان من الخارج إلى الداخل حتى دون أن ينتبه، هنا يكمن سؤال الفيلم الحقيقي هل يعيش الإنسان نفسه؟ أم يعيش الصورة التي صنعها له الآخرون؟ الفيلم يلمّح بلطف إلى أن الإنسان عندما ينغمس في المجتمع قد يفقد تلك البساطة الجميلة التي كانت تمنحه الرضا، العزلة كانت مساحة للتوازن، أما المجتمع فهو مساحة للاختبار اختبار للثبات على الذات، للتمسك بالقيم الأصلية قبل أن تتحول إلى قيم مكتسبة مفروضة، وهذا ما يجعل رحلة البطل ليست رحلة عمل أو حب فقط، بل رحلة صراع بين صوتين صوت داخلي هادئ، يحب البساطة والصدق، وصوت خارجي صاخب، مليء بالتوقعات والأدوار والمفاهيم الجاهزة، في النهاية، يساعد الفيلم المشاهد على إدراك أن أهم علاقة في حياة الإنسان هي علاقته بذاته، فحتى داخل المجتمع، من الممكن بل من الضروري أن يحافظ الشخص على تلك المساحة النقية التي لا يُسمح لأحد بالعبث بها.