ياسر مناع مؤلف الكتاب أسير محرر، وهو باحث في ماجستير الدراسات الإسرائيلية، جامعة بيرزيت، تم سجنه عدة مرات، يكتب هنا مذكرات غير شخصية عن سجنه خلال مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، أي في الفترة التي تصاعدت فيها إجراءات التعذيب بحق المسلحين العرب في السجون الصهيونية. دخل ياسر السجن كمعتقل إداري، وإذا سألنا الذكاء الصناعي ماذا يعنى معتقل إداري في إسرائيل؟ فإن جوابه: هو احتجاز شخص دون توجيه تهمة جنائية أو محاكمة، بناءً على أمر إداري يستند إلى معلومات استخباراتية سرية. يتميز هذا الاعتقال بأن مدته غير محدّدة ويمكن تمديده بشكل متكرر، ويتم دون وجود أدلة واضحة أو لائحة اتهام، ويعتبر وسيلة خطيرة يخشى استغلالها بشكل سيئ. وقد خرج ياسر من السجن دون أن نعرف ما هي تهمته؟ ولماذا أطلق سراحه قبل نهاية عام ٢٠٢٤ بقليل، لكننا نعرف من الكتاب أنه واجه من صنوف التعذيب ما يواجهه أي معتقل صدر عليه حكم من المحاكم الصهيونية. ما كان يجرى نوع آخر من الإبادة تتم بغير قنابل، إبادة نفسية، روحية اجتماعية تمارس على أشخاص ليس لهم إلا الكرامة، الأسرى عند الصهاينة كانوا رمزا لمعنويات لم تنكسر، رمزا للتحدي، الأمر الذي كان يستفز الجلاد الصهيوني. شعر الكاتب عندما أراد الكتابة أنه يفتح جرحا لم يلتئم، ينتزع كل حرف من الجرح بألم شديد، لكنها إطلالة ضرورية من خلال نافذة صغيرة على كمية المعاناة التى يتعرض الأسرى، غاية التعذيب كسر إرادة المقاومة، وتقويض الوعي، المطلوب هو أن يتحول الأسير إلى عبء على نفسه وعلى مجتمعه، بحيث يصبح عند تحرره شخصا مهمشا مهزوزا، أمر يؤدي إلى هدم القيم الإنسانية والوطنية عند أبناء الشعب. لا يقتصر ما يواجهه الأسير على العنف الجسدي بل يتعداه إلى العنف المرموز والعنف المضمر، العنف المضمر يحتوي على التهديد اللفظي والمعنوي، استخدام اللغة والضغط النفسي المستمر، وأما العنف المرموز فهو التهديد بالعنف الجسدى البالغ الذي سيحل فجأة بشكل مدمر وقاس. لكل أسير تجربته الخاصة فالقوانين الصهيونية تحمى المحققين عند استخدام ما يسمونه عنف معتدل للحصول على اعترافات. عرف الأسرى بشكل يعتريه الكثير من الغموض بما حدث يوم السابع من أكتوبر، وبين مصدق ومتشكك، أخذ كل منهم يتحضر للتحرر، ويجهز نفسه للقاء أبويه وأطفاله. في أحد السجون تم نقل ذوي المحكوميات العالية من منطقة إلى أخرى، ظنوا أنهم في الطريق إلى الخروج ولكن ما إن وصلوا حتى أنهالت عليهم وحدة القمع بكافة أشكال العنف الجسدي. عندما تهدأ نوبة التعذيب، يبدأ الجلادون بالتهديد بنوبة العنف القادمة، مما يزيد حجم القلق والتوتر والأرق التي تحرم صاحبها من الراحة وتسود مزاجه وتلغي تجاوبه مع المزاح وما يشبهه. بعد نوبة التعذيب الأولى يسود الصمت ويتحول كل واحد إلى آذان ترقب فتح باب الزنزانة لبدء جولة تفتيش وتعذيب أخرى. حين ينتهي التحقيق عادة ما تخف وتيرة التعذيب طالما صدر الحكم، لكن ما حدث بعد الطوفان غير الأمور، الركل واللكم واستعمال الهراوات مع الشتائم (ابن…) (كذا أختك)، وأصبحت تترك ندوبا وكسورا على معظم الأجسام، أيمن تعرض لنوبتين من الضرب، في النوبة الثانية اجتمع عليه سبعة من الجنود، كاد يفقد التنفس، تبين أن عددا من أضلاع صدره قد كُسر، قال طبيب السجن “خلي السنوار يعالجك “. هناك فرق إسرائيلية خاصة للقمع منها مثل فرقة “الخشونة” وفرقة “الكيتر”، وأحيانا تتحمس طواقم الفرق الطبية في السجون فيشاركون في التعذيب. في يوم ١٨ أكتوبر ٢٠٢٢ استشهد الأسير ثائر أبو عصب تحت التعذيب. بعدها تراجعت حدة الضرب مؤقتا، خاصة وأن خطيبته قد طالبت بالتحقيق. بعد أيام عند ساعة العد الليلي خصصوا ثلاثة غرف من كل قسم (ثمانية أقسام) وانهالوا عليهم ضربا وحشيا، وعندما انتهوا أخذوا يصيحون (كل يوم من هذا يا حماس) مع أن كل غرفة تحتوي أسرى من كل الفصائل، أحد الضحايا ربط يده المكسورة بكيس خبز قديم، طلب مسكننا فأتوه بحبة بنادول واحدة، وقال الممرض هازئا: اقسمها مع أصحابك! تقييد الأسرى وعصب أعينهم وحشرهم في غرف ضيقة أصبح ممارسة معتادة. الشتائم والإهانات لا تقل سوءا عن التعذيب الجسدي. بعض الأسرى يردون الشتيمة بالشتيمة، فينالهم نصيب مكثف من الضرب، إحدى السجانات تصرخ “ سأغتصبكم واحدا واحدا”. بعض المحققين كان يهدد بإغتصاب الأمهات والأخوات، وعلى الجدران الداخلية للزنازين يكتبون عبارات “خنازير”، أحيانا ينفرد الجلاد بأحد الأسرى فيُطلب منه وهو يُضرب أن يشتم السنوار أو الضيف. التفتيش بلا مبرر يحدث مرار، يتم الطلب إلى السجين أن يتعرى من كل ملابسه، أمام الجميع، الرفض يعني الضرب المبرح، وهنا على الأسير أن يوازن، تتحطم نفسية الأسير، يتحاشى النظر إلى زملائه، رغم أنهم يمرون بنفس التجربة. في وقت متأخر من الليل جاء أفراد وحدة “ أليماز”، الموكلة بالتفتيش، في الغرفة عشرة أسرى، أمروهم بالتعري التام والوقوف إلى جانب بعضهم البعض، وأخذوا يستعملون العصى في التحرش بالأعضاء التناسلية لكل منهم. ثم قاموا بضرب أجسامهم بعنف شديد، البعض يقول بصوت خفيف أن المسألة تتجاوز ذلك أحيانا إلى التحرش الجنسي. زياد الرجل الستيني، بعد تعريته تم فحصه باليد، وعندما وصلوا إلى رجليه قاموا بشد الساقين في اتجاهين متعاكسين، وبطريقة مؤلمة ثم الضغط على أعضائه التناسلية بحيث أصبح صراخه يملأ الجو. في سجن عوفر طلبوا من جميع المساجين إلقاء ملابسهم على الأرض، وجمعوها، سكبوا عليها الزيت والشامبو والماء. وجبات الطعام البائسة وكميات الماء لا تروي العطشان، ينقطع الماء عن الزنزانة ثلاثا وعشرين ساعة، وحين تعود المياه يكون لكل أسير ست دقائق لاستعمال المرحاض، وغسل الجسم إن أمكن، ولذا ينتشر بينهم مرض الجرب. الطعام سيئ وقليل، بحيث إن الكاتب كان يحتفظ بالثلاث وجبات لكي يتناولها سويا في المساء عله يحس بالشبع، ونظرا لذلك ولقلة مياه الشرب فإن كثيرا من الأسرى يعانون من الإمساك وينتهى الأمر بهم إلى البواسير. ناجح الأسير المحرر، خسر خمسا وعشرين كيلا من وزنه، بعد فحصه طبيا عند خروجه تبين أن لديه نقصا في فيتامين د وفيتامين بي ١٢ واضطرابا في وظائف الكبد. كان الأسير قبل ٧ أكتوبر يستطيع الذهاب إلى العيادة في أي وقت ويحصل على الدواء، كما توزع الأدوية لأصحاب الأمراض المزمنة كل أسبوع، بعد ٧ أكتوبر لم يعد هناك دواء مقدم، وكان هذا خطيرا على مرضى السكر وارتفاع ضغط الدم، طلب الكاتب مسكنا بسبب ألم في أذنه، كان الرد: هل يحصل الأسرى في غزة على دواء؟ أنتم هنا في نعيم، الأفضل أن تموتوا وتعودوا إلى غزة في أكياس سوداء. إذا وجدوا أنه لا بد من أخذ أسير إلى العيادة فلا بد أن يكون موثق القدمين واليدين، كما يتعرض للضرب والإهانة في الذهاب والعودة. وللكهرباء دورها، بدأت المسألة بانقطاع الكهرباء اثني عشرة ساعة في اليوم، ثم استمرت إضاءة الأنوار القوية على مدار كل ساعات اليوم لمنع النوم، وفي فترات أصبح المذياع يذيع أغانٍ عبرية بصوت عالٍ في تمام انتصاف الليل. ثم تم منع الأذان وصلاة الجماعة، والدروس الدينية، وصودرت المصاحف، وسجادات الصلاة، ومًنع الاحتفال بالأعياد، كما تمت مصادرة أجهزة المذياع والتلفاز وأقيمت تركيبات تمنع التواصل بالهواتف النقالة، إن استطاع السجين الحصول عليها، تكتيكات العزل تزداد مثل منع اختلاط أسرى كل غرفة مع أسرى الغرف الأخرى في ساحة السجن. كذلك يُمنع المحامون من إعلام السجناء الذين يرافقونهم إلى المحكمة من الإدلاء بأية معلومات أو أخبار. كذلك يُمنع كثير ممن تتم محاكمتهم من حضور جلسة المحكمة فيتابعونها عن طريق الفيديو وحولهم السجانون، كما لا تعطى لهم الوثائق الرسمية المتعلقة بمحاكمتهم، ولا يعلمون بانتهاء فترة الاعتقال الإداري ولا يتاح لهم التواصل مع محاميهم في الوقت الذي يختارونه. وعندما يطلبون الالتقاء مع محاميهم يتعرضون للضرب في مسارهم ذهابا وإيابا. يحاول الأسرى ابتداع تكتيكات لتحدي السجن، فهم يرفضون الانصياع بسهوله لأوامر نزع الملابس، أو شتم القيادات، وكذلك يجربون إعلان الإضراب عن الطعام بين حين وآخر، وهنا يقوم السجان بإعادة توزيع المضربين على السجون وإهانتهم. كما يحاول الأسرى تنظيم أنفسهم لتكون لهم قيادة تفاوض إدارة السجن، الأمر الذي يستفز إدارة السجن. وخاصة بعد ٧ أكتوبر، كما تزدهر بين السجناء أخلاقيات التكافل والدعم النفسي، ويحرصون على أداء صلواتهم، وأحيانا يتحدون فيقيمون صلاة الجمعة جماعة رغم تعرضهم للضرب والكثير من الإهانات. وكما جاء في مقدمة الكتاب فإن السجون في فلسطين ليست استثناء، فقد حول الصهاينة فلسطين إلى سجن كبير يسجن الأرض والإنسان والحياة في آن معا.