الدكتور «لفنجستون»، على ما أظن؟
كانت صحيفة “نيويورك هيرالد” تواجه مستقبلاً مجهولاً بعد تقاعد مؤسّسها، وتولّي ابنه “جيمس بينيت” إدارتها، وهو بعدُ في سنّ الخامسة والعشرين ولم تكن للابن خبرة أبيه، إذ حدث خلاف بينه وبين مجموعة من أفضل المحرّرين فقام بالاستغناء عنهم. واشتهرت الصحيفة بعد ذلك بنشر الأخبار المثيرة والفضائح، فاكتسبت بذلك سُمعة سيّئة على مستوى صحافة الولايات المتّحدة. إلى أن تقدّم للعمل في الصحيفة صحفيّ مُغامر اسمه “هنري ستانلي”، وقال لصاحبها: “لا أريدكم أن تدفعوا لي شيئاً من المال، إذ سأسافر على نفقتي الخاصّة، ولكن فقط ادفعوا لي ثمن ما يُنشر”! فوافق مالك الصحيفة على الفور إذ كانت الصفقة بالنسبة إليه ليست خاسرة. قرّرت بريطانيا في ذلك الوقت إعلان الحرب على الحبشة، بسبب نزاعات بينها وبين الامبراطور “تيودور”، وتوجّه الصحفي “ستانلي” إلى القاهرة ليُرافق الحملة البريطانية في عام 1868. وقبل أن يستقلّ الباخرة من السويس، ذهب إلى مدير مكتب البرق والبريد وعقد معه اتّفاقاً بأن تكون برقياته أول ما يُرسَل من السويس، وأن تسبق كلّ برقيات الصحفيين الآخرين ومنحهُ مكافأة مالية ضخمة، وقد كانت السويس وحدها نقطة الاتصال، ومنها تنطلق كلّ البرقيات إلى لندن ثم نيويورك. تابع ستانلي المعارك القصيرة التي انتهت بانتصار الإنجليز، فأسرع إلى السويس وبعث أول برقياته إلى مكتب البريد، لتنتقل الأنباء التي نشرتها صحيفته في نيويورك إلى لندن، قبل أن تعرف وزارة الحرب البريطانية بأن قوّاتها انتصرت! وكتب الصحفي في مذكّراته: “أصبحتُ الآن مُحرّراً دائماً في الصحيفة، وآمل أن يكون السبق الصحفي الثاني الذي أحصل عليه مُعادلاً للأول..”، ولكن السبق الثاني كان أعظم! ففي عام 1869، استدعى مالك الصحيفة الصحفي، وكان اللقاء سريعاً وحاسماً، إذ قال له: “إبحث عن “لفنجستون”! وكان الطبيب والمستكشف والمنصّر الإسكتلندي “ديفيد لفنجستون” قد سافر إلى قلب أفريقيا في عام 1866، لاكتشاف بُحيراتها الوسطى ومنابع نهر النيل، وكان القنصل البريطاني في جزيرة “زنجبار” قد أرسل البعثات للبحث عن الطبيب، ولكنها لم تصل إلى أيّ معلومات عنه، وتواردت الأنباء بأنه قد مات لأن أحداً من الأوربيين لم يره خلال الثلاثة أعوام السابقة. وهكذا وصل ستانلي في عام 1871 إلى الساحل الإفريقي الشرقي، ليبدأ البحث في مناطق مضطربة.. فيها قبائل تتقاتل، وأمراض تفتك بالبشر، وطُرق تخترق الغابات والوحوش، وكان مٌساعدوه يُمثّلون خليطاً غريباً من الأفارقة؛ البعض يلتحق بالرحلة للحصول على المال، وآخرون فِراراً من عواقب جرائم ارتكبوها، والبعض طلباً للسلاح والطعام ثم الهرب بعد ذلك! وعلى أيّة حال، فإن الصحفي استطاع خلال ثمانية أشهر أن يصل إلى مدينة “أوجيجي” في تنزانيا، حيث التقى بلفنجستون، وقال له عبارته الشهيرة: “الدكتور لفنجستون، على ما أظن”؟ Dr. Livingstone, I presume .. تلك العبارة التي احتلّت مانشيتات الصحافة العالمية في ذلك الوقت! حرص ستانلي على أن يسمع من الطبيب تفاصيل السنوات التي عاشها في قلب إفريقيا، ويكتب وصفاً تفصيلياً لهيئته وملامحه، والبيئة التي يعيش فيها، وملابسه وحذاءه المُمزّق، وكتفه الذي نهشه أسدٌ، وكلّ شيء عنه.. ويحصل منه على رسالة شخصية إلى مالك الصحيفة، وكذلك يوميات الرحلة الطويلة. ثم أن الرجلين افترقا وأسرع الصحفي عائداً إلى زنجبار، قاطعاً المسافة في شهرين، حيث أبرق إلى الصحيفة يصف قصّة عثوره على الطبيب، فيُثير العالم بأكبر سبق صحفي خلال قرنٍ كامل! ولكن الصّحف البريطانية وكذلك الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية -بدوافع من الغيرة والكبرياء- قالت: “أن رسائل الطبيب للصحيفة الأمريكية مُزوّرة”! ولكن ابن الطبيب كذّب هذا الادّعاء، وقال: “إن هذه يوميات أبي”، وأيّد الناس كلامه واستقبلوا ستانلي بالترحاب، ووُضعتْ صُوَرهُ في نوافذ المحلات وفي متحف الشمع، وأهدته الملكة “فكتوريا” علبة “نشوق” مُذهّبة، فاضطُرّ رئيس الجمعية الجغرافية لاستقباله ودعوته لإلقاء مُحاضرة عن رحلته وأهداه ميدالية الجمعية الملكية الرفيعة. ونشر الصحفي كتابه الشهير: “كيف عثرتُ على لفنجستون”، وكتب في المُقدّمة: أنه يُهدي الكتاب إلى جيمس بينيت” صاحب الجريدة، بل إنه كذلك أطلق اسمه على مجموعة من الجُزر الصغيرة في بحيرة تنزانيا. ومع ذلك فإن السيّد بينيت قال للصحفيين، وكأنه يُعزّي نفسه: “إذا كان ستانلي قد اكتشف لفنجستون، فإنني قد اكتشفتً ستانلي نفسهُ”. ويأتي من يقول: أن الصحافة ليست مهنة البحث عن المتاعب!!