
تصطف البنايات الشاهقة، لامعة بأصباغها البيضاء، وواجهاتها الزجاجية بشكل بديع. ويقف الشبك العالي فاصلًا بينها وبين القرى الصغيرة المتناثرة، وقد علقت الأسلاك الشائكة فوق الشبك. تجلس المرأة تحت ظل الشجرة الخضراء الكبيرة، توقد نارها بالحطب، وتضع الصاج الأملس فوق اللهب، وتأخذ قطعة العجين، وتصبها بشكل منتظم فوقه. الرجل يتكئ على مسند صلب بجانبها على طرف سجادة متآكلة. بطرف سكين تدير أطراف الرغيف الناضج وتنتزعه، وتلقي به فوق سفرة الخوص أمام الرجل. يمد يده ويقطع طرفه ويدسه بفمه، ويتبعه بقليل من الشاي الساخن. تختفي أشعة الشمس، فينظر الرجل إلى السماء؛ غيوم كثيرة بنية تقترب قادمة من الغرب، ويمسح الفضاء بنظرة من عينيه. الهواء توقف؛ عسب النخيل ساكنة، وقمم الأشجار. المرأة تمد نظرها وهي تنتزع رغيفًا آخر إلى حيث أبنتها ، وولديها الصغيرين، وترفع يدها تناديهم. لقد حل موعد الغداء، ولابد أنهم جياع، تلتفت إلى طاسة العجين مقدرة هل يكفي للغداء والعشاء للأسرة. يتنحنح رجل قادم، يقوم الرجل ويرحب به، ويؤشر إليه ليجلس على طرف السجادة، ويصب له من إبريق الشاي . يمد الرجل ـ وهو يبتسم ـ يده ويأخذ رغيفًا من السفرة. يظلم الجو قليلًا، وتتباطأ حركة الغيوم. تصل الأغنام بعددها القليل مع صغارها، وتدخلها البنت في حضيرتها. تأتي وتسلم وتجلس بجانب أمها وتقرب غصون الحطب من موقد النار. يلتفت الرجل إلى باب الغرفة المفتوحة الواقعة قريبًا منهم. في أقصى الجدار بَانَ عدة خناجر فضية وصفراء وقد ثبتت على الجدار، وعرض سيف صدئ فوقها، وبالجانبين منها رصت عدة بنادق قديمة، وأفخاخ صيد ذئاب. يؤشر إليها الرجل باسمًا، فيقوم مع صاحب البيت ويدخلان إلى الغرفة. تسمع المرأة حديثهما دون وضوح؛ لا شك أن رجلها يشرح للآخر عن هذه الأسلحة والمعارك التي استخدمت بها. تظلم السماء أكثر، وتقف السحب الرصاصية الداكنة دون حركة. تلتفت المرأة وهي تسمع أصوات هدير طائرات قادمة. ترى سربين من طائرات حربية مصبوغة بلون مموه بالأخضر الغامق، وبنقاط سوداء وكأنها كلاب خاصة . تمر الطائرات من فوقهم، متجهة إلى الشمال حيث القاعدة العسكرية التي يحضنها التل الغربي الواقع شرق كوم الجبال السوداء. تبدأ أنوار الإضاءات في البنايات الواقعة خلف الشبك العالي، ويملأ لمعان إضاءات (النيون) العيون. تُنهي المرأة آخر قطعة عجين في طاستها، وتنتظر نضوج آخر رغيف، لتطفئ النار. ترفع رأسها إلى السماء وقد بدأت قطع متناثرة من الثلج تتساقط؛ تشاهد تشقق الغيمة الرصاصية التي تغطي السماء كلها من فوقهم من أطرافها، ثم تهوي، تراها مقبلة إلى الأرض مثل رغيف أكبر من القرى وما حولها. تدك الغيمة الصلبة العملاقة القرى المتناثرة بمزارعها وبيوتها. لم تتمكن المرأة من إكمال صراخها، وهي تُدفن تحت الغيمة اليابسة. في الوقت الذي تمر أسراب من طوافات كثيرة مليئة بالجنود المغطاة رؤوسهم بالخوذات السوداء. وقبل أن يختفي آخر سرب منها، تفحّ أصوات حوامات مصبوغة باللونين الأحمر والأزرق، تصل طوابير منتظمة منها، وتنزلق فوق رغيف الغيمة اليابس، متفادية بعض نتوءات جذوع النخيل، أو بقايا الدور المدفونة.