حكايةُ ذائقة..

من صوتِ الأحسائي إلى أنغامِ جاكسون.

لم تمنعنا طفولتنا البسيطة من الانفتاح على الحياة والفن والموسيقى، بقدر ما كان يصلنا. وكما كانت هناك أغانٍ شعبية ذائعة، مثل أغنية عيسى الأحسائي: “رحّال عن ديرتك رحّال.. أسلّم عليكم فمان الله”، كان بعضنا مولعًا بالموسيقى الغربية، حتى وإن لم نفهم كلماتها. أتذكّر كيف كانت تطربنا الأغنية الشهيرة للفنان الأمريكي ليونيل ريتشي: Hello, is it me you’re looking for مرحبًا، هل أنا من كنتِ تبحثين عنه؟ أُعجبنا لحنها العذب، وكان كفيلًا بأن ينقل إلينا دفءَ الكلمات، عبر صوت ريتشي الساحر الذي لم أكن أعرف اسمه حينها. ومع الوقت، وفي بدايات دراستي لتخصص اللغة الإنجليزية، حاولت -لعدم حفظي كلماتها- أن أكتب من خيالي كلمات على نفس اللحن، وأرددها بيني وبين نفسي. ولست ممن يعيب تلك المرحلة أو يراها زمنًا متأخرًا، بالنظر لما استجد اليوم على مستوى الفن والموسيقى فقضية “القديم والحديث” نوقشت كثيرًا، وخلاصتها أن ما نعدّه حديثًا، سيغدو قديمًا غدًا. وهكذا هي طبيعة الأشياء. لا أنسى كيف كانت أصوات عيسى الأحسائي، وبشير شنان، وطلال مداح وعبدالكريم ، تموج عبر نوافذ السيارات، وترافقنا في الرحلات والمناسبات. وهناك جيل انجذب إلى مايكل جاكسون، “ملك البوب”، وبات بعض الشباب يقلدون قصة شعره وملابسه وحركاته الاستعراضية. أتذكّر صديق لي كان يهوى أداء حركة مايكل الشهيرة بالانزلاق إلى الخلف... والله يعين من يأتي خلفه! حينها، كان هناك صراع ظاهر وخفيّ بين من يرى في ذلك تقليدًا للغرب، ومن يعتبره امتدادًا طبيعيًا للانفتاح، الذي بدأ يتسلل إلى بيوتنا عبر التلفزيون، والسينما، والأفلام الأمريكية. أما اليوم، فنرى أبناءنا يواكبون عالمهم التكنولوجي والفني بامتياز، وبعضنا اندمج تمامًا في هذا العصر الرقمي المتسارع. وربما لم يتوقّع أبنائي -وأنا أتحدث معهم- أن أكون بهذه العقلية المنفتحة التي تستوعب الأشياء في سياقها الحضاري والقيمي، دون تهويل أو قلق. وحين أحدثهم عن لاعبي كرة القدم الإنجليز، أو عن أساطير سباقات الرالي مثل البرازيلي ايرتون سينا، أو عن أغاني الجاز والبوب، ربما يدركون أن لكل جيل ثقافته وذائقته، وأن السياق هو ما يمنح الأشياء معناها ويشكّل تلقيها. والأهم أن ذلك لا يُنقِص من قيمة تراثِنا وفنِّنا الأصيل، ولا من نغمته التي باتت شقّت طريقها إلى العالمية عبر الأوركسترا السعودية.