خذوا الحكمة من فم البروفيسور.

ظهرتْ الرواية كفَنّ أدبيّ كامل ابتكرهُ الرّومانسيون، وكانوا في زمنهم هُم التّنويريون والمتمرّدون على النماذج الكلاسيكية في الإنشاء والتفكير. ولذا فإن فنّ الرواية مُرتبط بمبدأ الحُريّة واللّا نموذج، وكلّ محاولة لنمذَجة هذا الفنّ هو خضوع لشروط الذهن الثقافي التقليدي، الذي هو ذهنٌ مَعياريّ.. يَطلب من الرواية أن تكون مثل تلك التي قرأ قبل عامٍ، وتلك التي سهر معها بدموعه قبل عشرة أعوام، أو تلك التي أسرَتهُ منذ قرأها وهو صغير وما زال يتذكّر أحداثها وحواراتها.. ولو قَبِل المُبدعون هذه الشروط، لما تقدّم الفنّ الروائي ولما تنوّعّ. ورواية “العصفورية” التي كتبها الدكتور “غازي القصيبي” - رحمه الله – هي من هذا النوع الروائي المتمرّد على النماذج الكلاسيكية، إذ لم يضع مؤلّفها على الغلاف صفة “رواية”، وخالف فيها القواعد الشائعة في الحبكات السّردية التقليدية.. إنها رحلة تخيّلية يلتقي فيها الواقعي بالفانتازي، ويرسم فيها الكاتب صورة ساخرة لما يضطرب ويضطرم داخل النفس البشرية. تدور أحداث الرواية في العصفورية، أو مستشفى الأمراض النفسية، وبطلُها هو “البروفيسور بشّار الغول”؛ أحد نُزلاء المصحّة، ويروي جلسات طويلة من الأحاديث مع طبيبه النفسي في حوار طويل يمتدّ على كامل صفحات الرواية. ومع أن البروفيسور نزيلٌ في العصفورية، إلا أنه يقول لطبيبه: “أنا لستُ مريضك، أنا يا مولانا لم أجيء هُنا للعلاج، أتيتُ للحديث، وأنت تتقاضى مائة دولار في الدقيقة يا دكتور، مُقابل الإنصات لي”! تتّخذ هذه الجلسات الحوارية سياق ساخر، يمزج الضحك بالبكاء، مُحتشداً في ذلك بثقافة موسوعية عالية في الأدبين العربي والغربي، ويغلب عليها القالب الساخر. ولكن القاريء المُتأمّل لتلك الحوارات الطويلة، لا بدّ أن يخرج بكثيرٍ من الأقوال الحكيمة المُستخلّصة من التجارب العميقة المُغلّفة بالسخرية اللّاذعة، والتي يمكن أن نعرض لبعض النماذج منها فيما يلي: يقول البروفيسور أنه عندما دخل المدرسة، سمع من أساتذته أن الأدب العربي لم يعرف الرواية إلا في القرن العشرين.. يا سلام! ماذا عن رواية “سيف بن ذي يزن”؟ اكتشف مؤلّفها السّحرَة والأطباق الطائرة قبل “والت ديزني” بقرون، ماذا عن “عنترة بن شدّاد”؟ ماذا عن “الأميرة ذات الهِمّة”؟ ماذا عن “الزير سالم”؟ ماذا عن “تغريبة بني هلال الكُبرى”؟ يُعلّمون أولادنا أنّنا نقلنا القِصّة والرواية من الغرب في القرن العشرين! وإذا تحذلق مُتحذلق، قال: إن هناك شيئاً من فنّ القِصّة في “المقامات”.. لا يا شيخ؟ وماذا عن “التوابع والزوابع”؟ ماذا عن “رسالة الغُفران”؟ ماذا عن “حيّ بن يقظان”؟ وماذا عن “ألف ليلة وليلة”؟ أروع مجموعة قصصية عرفها العالم؟ ثم أن البروفيسور أوصى طبيبه أن يحفظ هذا البيت من الشّعر: جُنِنّا بليلى وهي جُنَّتْ بغيرِنا وأُخرى بِنا مجنونةٌ لا نُريدها وقال: إن نصف المشاكل العاطفية يُلخّصها هذا البيت، ولو قالهُ “فرويد” لاعتُبِر نظريةً علميةً.. أما وقد قاله أعرابيٌّ “كحيان”، فقد ظلّ مُجرَّد بيت شِعر! وقال لطبيبه من جهة أُخرى: بأن أزمة مُنتصف العُمر مرحلة مُزعجة جِدّاً، لا أنت بالشّاب الظريف، ولا أنت بالكهل الوقور، ولا أنت بالشيخ الفاني.. فيك من كُلّ عُمرٍ أسوأ ما فيه؛ فيك حُمق الشّاب، وأنانيّة الكهل، وتَذمّر الشيخ! وقد عارض البروفيسور مُعارضة حلمنتيشية أبيات الشاعر القائل: الشُّعراء فاعلمنّ أربعة.. الخ، فقال: الشُّعراء فاعلمنّ أربعة فشاعِرٌ يُتقنُ فَنّ البمبعة وشاعِرٌ يُجيد عِلم المَرقَعة وشاعرٌ أشعرُ منه الضّفدعة وشاعرٌ من حقّه أن تفلعه والبمبعة: أن يقول الشاعر “إمباع” “إمباع”! والمَرقَعة: هي الصفاقة. وتَفلَعه: تعني أن ترميه بحَجرٍ في رأسه حتى يدمي! ويقول البروفيسور: بأن العرب كانوا يعتقدون بأنهم وحدهم، بين مخلوقات الله، القادرون على الكلام، أما بقيّة المخلوقات فهُم صِنفان: العاجزون عن الكلام نهائياً وهؤلاء هُم العجماوات، والذين يرطنون رطانةً غير مفهومة وهؤلاء هُم الأعاجم. واحذر أن تعتقد أن هذه نزعةً عُنصرية لدى العرب، فكُلّ المُجتمعات القديمة كانت تعتقد أنها وحدها القادرة على الكلام! وللبروفيسور تعريفٌ لافتٌ للأكاديميين، إذ يقول عنهم: أنهم مخلوقات من نوعٍ مُتميّز؛ يتحدّثون فلا يفهمهم أحد، لأن أفكارهم فوق مُستوى الدّهماء والرُّعاع والسُّوَقة، وهُم يشعرون بِحسرةٍ وُجوديّة لأن الحظّ اختار للمناصب العُليا البُله والبُلَداء، تاركاً النوابغ والعباقرة في الحرَم الجامعي، يهيمون من مجلسٍ إلى مجلس! أما عن رأيه في النُقّاد الأدبيين فإنه لا يكرههم، بل ينظر إليهم كنظرته إلى الحلّاقين؛ فالنُقّاد والحلّاقين يجمعهم حُبّ الثرثرة، والارتزاق من رؤوس الآخَرين! وعندما يتحدّث البروفيسور عن البيروقراطية، فإنه يقول بأنها تقتل خصمها من المسؤولين، عن أحد طريقين: تقوم بفحصه بذكاء، فإذا وجَدَتهُ نشيطاً مُحِبّاً للعمل قتَلَتهُ بالتفاصيل، وإذا وجَدَتهُ كسولاً يُحبّ الرّاحة واادّعة حجَبتْ عنه التفاصيل ولم توصل إليه معلومة واحدة! ثم أن البروفيسور عرّج على بلاد “العم سام”، وخرج من تجاربه هناك بملاحظات طرحها في جوانب عديدة: فهو يرى أنه في مجال القضاء هناك، إذا كان المُحامي ذَلِق اللّسان فإن بإمكانه إقناع المُحلّفين بأن موكّله المُتّهَم مُضطربٌ نفسيّاً، وبدلاً من إرساله إلى السّجن، يُرسَل إلى المصحّة ليُعالَج على نفقة الولاية. ويرى بأن كلّ هذه الكلمات الطنّانه من شنشنات العم سام، المتعلّقة بتطوير الذّات، أنها مُستخرعات تسويقية لإنعاش الاقتصاد الأمريكي: حقّق طموحاتك، والمُستفيد صانعو السيارات! وسّع مداركك، والمُستفيد ناشرو الكُتب! إعرف نفسك، والمُستفيد أساتذة اليوجا! أما عن التربية هناك، فإن البروفيسور يضرب مثالاً عمليّاً كالتالي: عندما يعود الطفل الأمريكي إلى أُمّه مضروبا باكياً، توبّخه بشدّة، قائلةً: “إذهب غداً واضرب الّذي ضربك، واحذر أن يعرف أبوك أنّك ضُرِبتَ أو بكيت”! أما في “عربستان”، فتستقبل الأُم ابنها المضروب الباكي، بالضَمّ والدموع، وتقول: “ضربوك يا حبيبي؟ مين ضربَك؟ بكره أبوك يروح معاك ويضربُه”! هذه المُقارنة البسيطة، تُغنيك عن آلاف المراجع في التربية. وختاماً، فربّما كان من المُناسب إيراد بعض القفشات الطريفة، التي وردت على لسان حضرة البروفيسور، ومنها: أنه قفز في إحدى سيارات الأُجرة في “باريس”، فإذا بالسائقة يجلس إلى جوارها كلبٌ أحسنتْ حلاقته، فمدّ البروفيسور يده ليُلاعب الكلب، وهُنا عضّه الكلب اللّئيم، فصاح البروفيسور بقلبٍ مجروح، وجفنٍ مقروح: صُوني عَقورَكِ عنّا.. إننا عرَبٌ نهوى السّلام.. وهذا الكلبُ شَرّاني أو فابتغي قفَصاً.. يلقى بهِ مغَصاً كَيلا يرى فُرَصاً.. في عَضّنا تاني! ثم يروي البروفيسور هذه الطُرفة: عندما شدا “عبدالوهاب” بقصيدة شوقي “يا جارة الوادي”، سمع شايبٌ من أهل الديرة قوله: ولقد مررتُ على الرياض بربوةٍ غنّاء كُنتُ حيالها ألقاكِ فقال: “الله يهديه عبدالوهاب، يجي “للرياض” ولا يسلّم علينا”! وسلامتكم.