كان هنا.

وعندما غادر مسرح الجريمة، أخذ يقرأ ما خط في ورقة عُلم عليها باللون الأحمر ووضعت على الطاولة في زاوية الحجرة المظلمة، بجانب فازة مليئة بالأزهار الذابلة التي عجزت عن المقاومة، المتكدسة في حضن زجاجي صلب وجاف لا يفهم حاجتها للحياة ولا يجيد لغة الندى التي تخاطب بها العالم؛ تنقع ساقها الحي في مستنقع من المياه الخضراء الراكدة: هُناك من يغترف الأفكار من رأسي، قلبي خاليًا ووجهي لا يُرى ودمي بلون الماء وهناك من يغترف الأفكار من رأسي! رأسي فارغا. وأنا مسلوب.. أصحو كل يوم وكأني رميت حملًا ثقيلًا من على ظهري لكني لا أذكر أمسي ولا أعرف شكل حزني الذي تخلصت منه ولا سبب وقوعه ومنذ متى وأنا اتحمل عذابات حمله، أغمض عينيَّ مطولا وأفتحهما من جديد فأجدني في (بداية) يوم آخر، أكره البدايات وتثقل خطاي.. اتنهد بابتسامة و رضا وفير، أسير خطوتين بكامل خفتي ثم سرعان ما أتعثر في وحل عميق، و أبقى أبقى عالقة هناك إلى أن ينتهي يومي من جديد، و أكرر هذه العملية كل يوم، ولا أعرف حقيقةً ان كنت كل يوم أنزلق في ذات الوحل أو قد أكون سقطت مرةً في بئر و أخرى غرقت في نهر و يوما جرفني طوفان و آخر ابتلعني ذئب ثم لفظني أبعد عن واقعي، تبدو لي أيامي و كأنها كوابيس تخص شخصا آخر، أو ربما قصص يتخيلها طفل و يغلبه النعاس قبل أن يختتمها، أقضي يومي و انا لا أعي ماهية ما يحدث، أقلب الكتب أشرب القهوة أرقص على الأغنيات و أتأمل اللوحات و أمد يدي مرارا إلى ضوء الشمس و أتحسس أوراق الشجر و ملمس بتلات الزهور، أختار لبسي بعناية و أقابل الآخرين كل صباح، أتردد في وضع خصلات شعري خلف أذني أو تركها تنساب على وجهي، أشده كاملا للأعلى أو اتركه نائما على كتفي؟ أبتسم لزجاجة العطر، وأجرب الأقراط باعجاب متواضع، أنظر للأشياء بصورتها الحقيقية ويمكنني رؤية الآخرين بحقيقتهم التي يعجزون التنكر عنها رغم محاولاتهم، أفكارهم تصرخ من خلف ابتسامات قبيحة وأعين يجول بها التردد. أرى كل الأشياء التي تمرني و أشعر بها، لكني عاجزة عن رؤية نفسي، أشعر بي كشخص آخر منفصل عني، يستنجد بي دائمًا لكني أراه من خلف زجاج سميك أرتشف قهوتي وأشيح ببصري عنه، لا أرى في حاله ما يستدعي النجدة ويزعجني الدور الذي يتقمصه -أو من يعلم- ربما المعاناة التي يخفيها، لكني لا أجد ما يدفعني لمد يدي الى الخارج، اليه هو تحديدا، في الحقيقة لقد حاولت مرارا لكني.. عاجزة. عن الوصول اليه، أو لمسه، يبدو متجبرا جدا ومتعجرف؛ لا أعرف ما الذي يدفع شخصا مثله للاستنجاد بي أو حتى التلميح إلي، ثم لا يعطي محاولاتي فرصة ولا يساعدني في الوصول.. أنظر اليه مطولا وينظر إلى من خلف ذلك الحاجز الزجاجي السميك، أراقبه يعيش يومه بتفاصيل غارقة في العادية وأنا على كرسي جلد ضخم، أمامي رفوف من الكتب، وخلفي حديقةً غنّاء، أرتشف قهوتي وأنظر للقلم بين يدي، هو وأنا؛ أنا ونفسي عاجزان عن الوصول إلينا. (الانزعاج غائب غالبًا وشعوري بالورطة متيقظ دائمًا.. ولا أعي ماهية مايحدث، أبدًا) وداعًا.