تيمقاد ... التي نهضت من رمال الجزائر.

على سفوح جبال الأوراس الشامخة، في الجزائر، حيث يختلط عبق التاريخ بنسمات الريف الجزائري، تنتصب مدينة تيمقاد الرومانية كجوهرة منسية في قلب الصحراء الكبرى. مدينة بُنيت في القرن الأول الميلادي، ازدهرت، وتوسعت، ثم خفت نورها لقرون قبل أن تستعيد بريقها من جديد في العصر الحديث. إنها ليست مجرد أطلال، بل حكاية مدينة مزدهرة تحوّلت إلى أسطورة دفنتها الرمال ثم كشفت عنها يد التاريخ من جديد. ولم تكن تيمقاد مجرد مستوطنة رومانية عادية، بل كانت مدينة خطط لها بعناية فائقة لتؤدي وظائف عسكرية، إدارية، وتجارية، إلى جانب كونها مدينة للراحة والتقاعد بالنسبة للجنود الرومان بعد نهاية خدمتهم. وبعد أن طمرتها الرمال لقرون، أعيد اكتشافها في القرن الثامن عشر، لتصبح اليوم موقعًا أثريًا عالميًا مسجلًا على قائمة التراث العالمي لليونسكو، ومقصداً لعشاق التاريخ من كل أنحاء العالم. وسنستعرض القصة الكاملة لتيمقاد.. تأسيسها، عمرانها، مجدها، اندثارها، ثم بعثها من جديد، في رحلة تتقاطع فيها السياسة بالإمبراطورية، والعسكر بالحضارة، والرمال بالخلود. تيمقاد: حين قررت روما أن تحرس حدودها بالجمال تأسست مدينة تيمقاد في العام 100 ميلاديًا، في عهد الإمبراطور الروماني تراجان، الذي أمر ببنائها كجزء من استراتيجية دفاعية لحماية الحدود الجنوبية للإمبراطورية الرومانية من تهديدات القبائل المحلية. إلا أن المدينة لم تكن مجرد موقع عسكري، بل مثّلت نموذجًا مدنيًا للحضارة الرومانية في أوج ازدهارها، حيث بُنيت كمستعمرة لتقاعد الجنود الرومان بعد الخدمة، وكان الهدف منها الحفاظ على الهوية الرومانية وتعزيز النفوذ الثقافي للإمبراطورية في المناطق النائية. تيمقاد كانت بمثابة «روما الصغيرة» في قلب إفريقيا. فقد جمعت بين الوظيفتين: العسكرية والمدنية، وكانت مثالاً حيًا على كيفية امتداد الحضارة الرومانية عبر البحر الأبيض المتوسط إلى عمق شمال إفريقيا. هندسة مدينة رومانية… في قلب الجزائر وحسب اامختصين في الهندسة والعمران، تمثل تيمقاد النموذج المثالي للمدينة الرومانية من حيث التصميم المعماري والتخطيط الحضري. المدينة بنيت على شكل مربع تقريبًا، بمساحة تناهز 50 هكتارًا. وقد اعتمدت في تصميمها على النمط الشبكي، حيث تتقاطع الشوارع بزوايا قائمة لتقسيم المدينة إلى مربعات عمرانية متساوية. ويمر وسط المدينة شارعين رئيسيين يعرفان باسم «الكاردو» و»الديكومانوس»، يمتدان على محوري الشمال – الجنوب والشرق – الغرب على التوالي. ويقع في تقاطع هذين الشارعين الساحة العمومية أو «الفوروم»، والتي كانت مركزًا للنشاطات الإدارية والدينية والتجارية. ويُعد هذا النمط في التخطيط من أبرز سمات المدن الرومانية، ويعكس مدى دقة وتطور العمران في تلك الحقبة. معالم أثرية خالدة تحتوي تيمقاد على مجموعة من المعالم المعمارية الرومانية الرائعة، أبرزها المسرح الروماني الذي يتسع لأكثر من 3500 متفرج، وكان يُستخدم للعروض الفنية والمناسبات الرسمية. كما يوجد مكتبة عامة تعد من أقدم المكتبات في إفريقيا الرومانية، إضافة إلى الحمامات العامة التي تعكس الطابع الاجتماعي والرفاهي لحياة الرومان. إلى جانب المنشآت المدنية، بُنيت داخل المدينة معابد مخصصة للآلهة الرومانية، وقوس نصر تخليدًا لانتصارات الإمبراطورية. وخلال العهد البيزنطي، أُضيفت قلعة ضخمة باستخدام مواد محلية من نفس الموقع، وهو ما يشير إلى استمرار الأهمية العسكرية للمدينة حتى في الفترات المتأخرة من التاريخ الروماني في المنطقة. عصر الذروة… ثم الاندثار خلال القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، بلغت تيمقاد ذروتها، حيث تحولت إلى مركز تجاري وثقافي رئيسي في إقليم نوميديا الروماني. وبفضل موقعها الاستراتيجي على طرق التجارة، ازدهرت اقتصادياً واجتماعياً، وازداد عدد سكانها مع تدفق المهاجرين والتجار من مناطق مختلفة. وغير أن المدينة بدأت تتراجع تدريجيًا مع حلول القرن الخامس الميلادي. تعرضت الإمبراطورية الرومانية لتحديات داخلية وخارجية كبيرة، بما في ذلك الغزوات الوندالية والاضطرابات السياسية، ما أدى إلى انكماش نفوذ روما وانهيار الإدارة المركزية. وشيئًا فشيئًا، بدأ السكان في مغادرة المدينة، وقلّت الحركة التجارية، واختفت معالم الازدهار شيئًا فشيئًا. ومع دخول الفتوحات الإسلامية للمنطقة في القرن السابع الميلادي، تحوّلت المراكز الحضرية نحو الشمال الشرقي مثل قسنطينة وتلمسان، وتُركت تيمقاد لمصيرها. وبفعل موقعها الجغرافي، غمرتها العواصف الرملية القادمة من الجنوب، فطمرت المدينة بالكامل، وابتلعتها الرمال لأكثر من ألف عام. النهضة الحديثة… والدهشة المستمرة في عام 1765، بدأت أولى الإشارات الجادة لاكتشاف المدينة من جديد، بعد قرون من النسيان، لكنها لم تحظَ بالاهتمام العلمي الكامل إلا في العصر الاستعماري الفرنسي في القرن التاسع عشر، حيث بدأت بعثات التنقيب الأثري واسعة النطاق في الموقع. النتائج كانت مذهلة: مدينة رومانية شبه متكاملة خرجت من تحت الرمال بحالة حفظ استثنائية، تتضمن تفاصيل معمارية نادرة، وشوارع مرصوفة، ونقوش لاتينية واضحة، إلى جانب معالم دينية وثقافية محفوظة. هذا الاكتشاف شكل صدمة علمية وأثرية، وأعاد كتابة تاريخ شمال إفريقيا الرومانية، وأثبت عمق وتأثير الحضارة الرومانية في الجزائر القديمة. اعتراف عالمي تقديرًا لأهميتها الحضارية، صنّفت منظمة اليونسكو موقع تيمقاد ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي سنة 1982. ومنذ ذلك الحين، تحوّلت المدينة إلى متحف مفتوح يجذب السياح والباحثين، وتُعد اليوم من بين أكثر المواقع الأثرية زيارة في الجزائر، ومصدر فخر للذاكرة الثقافية الوطنية. مهرجان تيمقاد الدولي أحد أبرز الأنشطة الثقافية المرتبطة بالمدينة هو مهرجان تيمقاد الدولي، الذي يُقام سنويًا وسط المعالم الأثرية، ويجمع بين الموسيقى، المسرح، الفنون البصرية، والندوات الفكرية. يقام هذا المهرجان في قلب المسرح الروماني، مما يمنح الفعالية طابعًا خاصًا يمزج بين الحضارة والفن، ويعيد الحياة إلى المدينة ولو لأيام معدودة كل صيف. تحديات الحاضر: بين الإعمار والحماية رغم الجهود الكبيرة المبذولة في حماية الموقع وترميمه، إلا أن مدينة تيمقاد لا تزال تواجه تحديات عديدة. حيث لا يزال الكثير من أجزاء المدينة مدفونة تحت الرمال، وهناك حاجة ماسة إلى استكمال أعمال التنقيب والبحث العلمي، خصوصًا في الأطراف الجنوبية والغربية من الموقع. ويرى الكثير من المختصين أن الدولو مطالبة بتوفير تمويلات خاصة ومن المؤسسات الدولية، من أجل ترميم الأجزاء المتآكلة من المباني، وحماية النقوش والجدران من عوامل التعرية والتغيرات المناخية المتسارعة. الزحف البيئي والسياحي تعاني المدينة من بعض المخاطر المرتبطة بالعوامل الطبيعية، مثل العواصف الرملية التي لا تزال تتكرر، وتهدد بإعادة طمر بعض أجزاء المدينة. كما أن تزايد عدد الزوار، دون تنظيم أو رقابة كافية، قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمعالم الأثرية. المطلوب اليوم هو مقاربة جديدة تجمع بين حماية التراث، وتطوير السياحة الثقافية المستدامة، دون أن يكون أحد الهدفين على حساب الآخر. مدينة من ذهب… تنهض من الرمال مدينة تيمقاد ليست فقط معلمًا أثريًا مهمًا في الجزائر، بل هي ذاكرة متجذرة في أعماق التاريخ الإنساني. إنها نموذج لما يمكن أن تفعله الحضارات العظيمة حين تتقاطع الهندسة بالثقافة، والسياسة بالفن. ورغم أنها طُمست لألف عام، فإنها عادت لتُخبر العالم أنها لا تزال هنا، بحجارتها وشوارعها ونقوشها، شاهدة على حضارة لن تموت. ومع الاعتراف الدولي والاهتمام المحلي، ومع استئناف الحفريات العلمية، تُثبت تيمقاد أنها ليست بقايا الماضي، بل مستقبل التراث في الجزائر، ووجهة يُعاد اكتشافها جيلاً بعد جيل.