الفطرة الوطنية السعودية.

الفطرة ليست مجرد ميلٍ غريزي يولد مع الإنسان، بل هي البذرة الأولى التي تحدد كيف يرى العالم و كيف يتفاعل معه ، و إذا كانت الفطرة الدينية هي وشيجة الإنسان بخالقه، فإن الفطرة الوطنية هي وشيجته بأرضه و تاريخه و جماعته الكبرى . في الحالة السعودية تبدو هذه الفطرة الوطنية أكثر نقاءاً و تجذّراً من أي نموذج آخر، لأنها ليست صناعة طارئة و لا خطاباً دعائياً، بل وُجدت مع نشأة الكيان و استمرت تتجدد مع كل جيل، حتى صارت جزءاً من وعي الإنسان السعودي و لاوعيه على حدٍ سواء. الجذور الأولى للفطرة الوطنية الإنسان السعودي حين ينشأ في بيئته يكتشف منذ طفولته أن حب الوطن ليس قيمة مكتسبة لاحقاً من الكتب و المناهج فحسب، بل هو سياق يومي يتنفسه من تفاصيل اللغة و اللهجة، إلى الأناشيد الشعبية، إلى القصص التي تُروى في المجالس عن التوحيد و البطولات، كلها تسكب في الوعي معنى الوطن كامتداد طبيعي للذات. هذه البدايات تُرسّخ أن الوطن ليس جغرافيا جامدة، بل “بيت الفطرة” الذي يحدد هوية الفرد و يؤطرها. الفطرة الوطنية كتجربة وجدانية حين نتأمل الوعي الجمعي السعودي، ندرك أن الفطرة الوطنية ليست خطاباً نظرياً، بل هي إحساس حيّ يظهر في لحظات التحدي قبل لحظات الرخاء. لحظة تتعرض البلاد لأي تهديد، يذوب الفارق بين القبائل و المناطق و المدن، و يعود الفرد إلى منبعه الأول: “أنا سعودي، و هذا يكفي”. إنها ليست صيغة هوية سياسية فحسب، بل حالة وجدانية غائرة تُترجم نفسها في التضحية، و في الولاء، و في الثقة بأن بقاء الوطن شرط لبقاء الفرد و معناه. بين الفطرة و البناء قد يقول قائل: الفطرة الوطنية لا تكفي وحدها لبناء حضارة !! هذا صحيح، لكن الفطرة هنا هي الأرضية التي تسمح للبناء أن يقف راسخاً. في السعودية، تلاقت الفطرة مع مشروع مؤسس كرس قيمها و حماها من التآكل .. الملك عبدالعزيز –رحمه الله– لم ينشئ دولة من العدم، بل استثار ما كان كامناً في الوجدان .. نزوع الإنسان إلى الوحدة، كرهه للتجزؤ، حنينه للأمان و الاستقرار ، و بذلك تحولت الفطرة إلى مشروع، و المشروع إلى دولة، و الدولة إلى قدر. الفطرة الوطنية في مواجهة السرديات في زمن “حروب السرديات” و حروب الإعلام العابرة للحدود، كثير من الشعوب تفقد بوصلتها، فتتشظى هوياتها .. أما السعودي، فإنه يقاوم ليس لأنه يحفظ نصوصاً جاهزة، بل لأن داخله جهاز مناعي اسمه الفطرة الوطنية. هذا الجهاز يتعرف على أي خطاب يهدد أصالته فيرفضه تلقائياً، و يميز بين النقد البنّاء و بين محاولات التشويه ، و هنا تكمن عبقرية الفطرة بأنها لا تلغي العقل، بل تمنحه معياراً داخلياً للتمييز. البعد الفلسفي للفطرة الوطنية إذا أردنا أن ننظر إليها بمنظار الفلسفة، فإن الفطرة الوطنية السعودية يمكن قراءتها كتجسيد لمعنى “الانتماء الطبيعي” .. الإنسان كائن يبحث عن معنى، و المعنى الأسمى الذي يسبق كل المعاني هو أن ينتمي إلى “نحن” أوسع من ذاته. هذه الـ”نحن” في السعودية ليست فكرة مجردة، بل تتجسد في رموز حية .. في القيادة التي تشكل الامتداد التاريخي للشرعية، في مكة و المدينة كمرتكز روحي، و في الصحراء و النخلة و السيف و العقال كمعالم وجدانية. كل رمز هنا يعيد صياغة المعنى في أعمق صور التجذر. الفطرة كقوة مستقبلية قد يتساءل البعض: ما جدوى هذه الفطرة في عالم متغير تحكمه التكنولوجيا و الأسواق العالمية؟ الجواب أن الفطرة الوطنية ليست حاجزاً ضد الحداثة، بل هي الحاضنة التي تمنع الحداثة من أن تتحول إلى ذوبان. رؤية السعودية 2030 مثلاً، لم تكن بمنآى من الفطرة، بل كانت تطويراً لها: تحويل الانتماء العاطفي إلى طاقة إنتاجية، و جعل الفخر الوطني قاعدة لبناء اقتصاد و مجتمع جديد، دون أن يذوب الإنسان السعودي في هوية عابرة. الفطرة الوطنية السعودية ليست شعاراً و لا خطاباً سياسياً، بل هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها وعي المجتمع. هي البوصلة التي تحمي من الضياع، و الملاذ الذي يطمئن إليه القلب حين تضطرب السرديات في عالم يسعى إلى تفكيك الهويات و تحويلها إلى وحدات استهلاكية، يبقى الإنسان السعودي محتفظاً بامتياز نادر جداً و هو أنه وُلد على فطرة وطنية نقية، و أن هذه الفطرة ما زالت حيّة تُنتج ولاءاً، و تلهم إبداعاً، و تؤسس لمستقبل يليق بالأمة وأبنائها.