الخطوط الحمراء تخلق الإبداع.
 
          عندما تقرأ هذا العنوان، تجد كلمتين متنافرتين يصعب الجمع بينهما ،فكيف يُؤلِّف بين السماء وعلوها والأرض وإنخفاضها. هكذا يبدو الأمر للقارئ الكريم ، ولا أُنكر عليه استغرابه واستفهامه ذاك ,لأن الإبداع طريقٌ يسلكه المبدع عندما يتحرّر من قيود الاحتذاء والامتثال والممنوع والمرغوب وتلك الخطوط الحمراء ماهي إلا عقبات توضع في طريق ذلك السالك تقول له «أن يعود أدراجه». أو قد يصفها البعض بأنها ظلمةٌ تحلّ في سماء المبدع المضيئه لتحجب إبداعه, ولكن المتفحِّص الأريب يرى أبعد من ذاك ,فالإبداع في التعريف اللغوي هو الإتيان بشيءٍ لا نظير له في جودته وإتقانه . اما في الاصطلاح فيمكن تعريفه بأنه خلق أو إيجاد شيء جديد غير موجود مسبقاً ,والإبداع يختلف مفهومه باختلاف مجاله, فالإبداع الأدبي يختلف عن الإبداع الصناعي والعلمي وهذا ما أكَّدهُ آرثر كروبلي في كتاب موسوعة الابداع «لقد اتسع التعريف الحديث للإبداع من التركيز على الجماليات إلى المنتجات العمليةفي العلوم والتكنولوجيا والأعمال الى قوله من المهم أيضًا التمييز بين الإبداع في معناه السامي والإبداع في معناه اليومي» (ص ٣١٥- ٢٠١٩ ) ومن هنا يتضح أن الإبداع أن تخلق حالةً فكريةً غير موجودةٍ من فكرةٍ عاديةٍ قد تم تناولها مسبقاً ، و دليل ذلك أنك تجد أن هناك مئات الشعراء تناولوا فكرة الكرم مثلاً ولكن هناك بيتاً واحدًا لشاعرٍ واحدٍ هو من تفرّد بأجمل وأصدق بيتٍ في وصفه. وهذا الإبداع إذ يحتاج إلى حوافز للإجادة, ففي البحث العلمي مثلاً قد توجد مشكلة تحتاج إلى حلٍ ما . وقد توجد حلول كثيرها لها ولكن الإبداع يكمن في خلق حلٍ في ظروف صعبة لا تتلاءم مع الحلول الكثيرة الموجودة . وهنا يبرز الإبداع كحلٍ غير عادي في ظرف استثنائي .و هذا ما يجعل الخطوط الحمراء ضرورية لخلق الإبداع وإبرازه . والأمثلة على ذلك في الأدب العالمي والعربي كثيرة و منها الأخوات برونتي اللواتي عشن في حقبة زمنية ترفض المرأة وتحجم رأيها بل وتمنعها من إبدائه وهذا ما دفع الناقد فالنتين كونينغهام لطرح هذا سؤالا الذي ما زال مفتوحا لا إجابة وافية عنه: «كيف أمكن العوانس الثلاث، اللائي نشانَ في بيت خوري صارم في هاورث الكئيبة، أن يكتبنَ أعمالاً مثل هذه الأعمال الإبداعية ؟» ولكن الإجابة تكمن في تلك الخطوط الحمراء والقيود التي وُضعت في طريق الأخوات برونتي، فهي التي خلقت حالة إبداعية نادرة ورائعة، إذ تحتم على الدارس للأدب الإنجليزي ألا يتجاوز هذه الروايات إلا بعد أن يمتدحها كما يمتدح العاشق المتيم محبوبته لروعة جمالها وبهاء طلتها • Jane Eyre • Wuthering Heights • Agnes Grey وهذا ما جعلهن من روائع الأدب العالمي ولولا التحدي الذي وجدنه الأخوات الثلاث والظروف الصعبة وتلك الحقبة الزمنية المظلمة لما ولد هذا الإبداع. فالكاتب المبدع شأنه شأن الفوارس الأبطال فلا تجدهم إلا واضعين أيديهم على مقابض سيوفهم ثائرين على كل عدو فالكاتب المبدع يخيل إليه أنه في ميدان معركة فاصلة وان تلك العوائق والموانع والخطوط الحمراء ماهي إلا عمالقةٌ جبابرة لا سبيل له للنجاة إلا بالانتصار عليهم وهذا ما يستثير مكامن إبداعه. فتلك الخطوط الحمراء التي تحدد من إمكانية تعبيره عن افكاره واراءه هي في الحقيقة وقوده للإبحار في عالم الابداع والتفرد وهذا ما جعل ابن المقفع يتحفنا برائعته كليلة و دمنة التي تميزت بالتورية والسرد القصصي فكتاب كليلة ودمنة يعد مرجعاً للأفكار النيرة والحِكم الفذة ونقداً جاداً للحياة السياسية في عهد و كثرة الدسائس والقتل وظهور الطوائف وظلم العامة وتفشي الفكرة السوداوية عن الأخلاق والإخلاص والوفاء. فكان ابن المقفع في صراع بين خوفٍ فطريٍّ على حياته أن أبرز رأيه وبين روح الكاتب التي تتفحص واقعه ولديه آراء يريد إبرازها والحديث عنها لذلك خلق نوعاً من النقد الجادّ الواعي المتزن على ألسنه الحيوانات في قصص تعج فكراً ناضجاً آسر ومن هنا نجد أن أي كاتبٍ يكون على وعيٍ تامٍّ بأهمية ما يكتب وكيف يكتب ولمن يكتب ، غير أنه يُبدع عندما تسيطر عليه فكرة ٌمجنونة تجعله يخلق منها فكرةً عقلانيةً بأسلوب غير تقليدي فالكّتاب كثيرون والمقالات كثر التي تناقش الفكرة ذاتها ولكن هناك كاتبٌ يتفرّد، ومقالٌ لا يُنسى. فلا مجال لأي شخص يسعى إلى الإبداع والتميز في أي مجال كان أن يجعل من العوائق والخطوط الحمراء سببًا لعزوفه وجلوسه في مصاف المتأخرين. فالمبدع هو من يرى خلف تلك الخطوط الحمراء عالمًا زاهيًا، ونورًا متقدًا، ورائحة زكية، وجنة وارفه، فيسير نحوها سير الملك الفاتح المزهو بقوته وقدرته. فلا يخال نفسه إلا ناجحًا لا محالة
