زمن السرعة..

هل تلاشت قيمة الانتظار؟.

منذ طفولتنا كان للانتظار حكاياته الصغيرة التي تملأ أيامنا ، ننتظر العطلة الصيفية بعد عام دراسي طويل ونعدّ الأيام حتى موعد العيد ونترقّب وصول رسالة بخط اليد من قريب بعيد أو اتصالاً قصيراً من صديق عزيز ، في تلك اللحظات لم يكن الانتظار مجرّد مرور للوقت بل كان حالة يعيشها القلب والعقل معاً ، كان الترقّب يصنع فرحاً مضاعفاً عند الوصول ويُضفي على الأشياء قيمة لا يعرفها من اعتاد على السرعة. اليوم تغيّر المشهد جذرياً ، لم يعد هناك الكثير مما يُنتظر فكل شيء بات حاضراً بضغطة زر ، تريد طعامك؟ سيصل إلى باب منزلك خلال دقائق تفتقد شخصًا؟ يمكنك أن تراه وتحادثه بالصوت والصورة في لحظة تحتاج معلومة؟ محرك البحث سيزودك بها قبل أن تُكمل صياغة سؤالك ، هذه السرعة منحتنا بلا شك راحة ورفاهية لكنها في الوقت ذاته أفرغت الكثير من التجارب من معناها وسلبتنا تلك المتعة العميقة التي كان يمنحها الانتظار. إن الانتظار في جوهره ليس مجرد فراغ يُستهلك بل مدرسة صامتة تُعلّمنا الصبر وتُهذّب مشاعرنا حين ننتظر تتسع مساحة التأمل في دواخلنا فنراجع أنفسنا ونخطط لأحلامنا ، أما حين يختفي الانتظار تماماً نصبح أسرى لعجلة لا تتوقف نريد كل شيء في التو واللحظة ونضيق ذرعاً بأي تأخير مهما كان بسيطاً . وقد انعكست هذه الظاهرة على سلوكياتنا الاجتماعية في العلاقات مثلاً لم يعد كثيرون يقبلون فكرة البناء البطيء ذلك التدرج الذي يمنح العلاقة عمقاً وثباتاً كل شيء صار سريعاً إعجاب، تعليق، محادثة، ثم فتور وانسحاب بالسرعة نفسها حتى في طموحاتنا وأحلامنا نبحث عن اختصارات: دورات سريعة، وصفات جاهزة، طرق مختصرة لتحقيق النجاح . لكننا نكتشف مع الوقت أن أعظم الإنجازات لا تُختصر وأن أجمل التجارب تحتاج إلى صبر ومرور وقت كي تنضج. المفارقة أن الإنسان رغم شغفه بالسرعة لا يزال يحنّ إلى لحظات بطيئة ولهذا نجد إقبالًا على هوايات مثل القراءة، الزراعة، الطبخ، وحتى السفر بوسائل أبطأ كالقطارات كلها أنشطة تعيدنا إلى وتيرة هادئة تسمح لنا بتذوق التفاصيل على مهل. الروح بطبيعتها تبحث عن توازن ، عن مساحات هدوء تعيد ترتيب الداخل وسط ضجيج العالم. الانتظار ليس خصماً للإنسان بل صديقاً خفياً يعيد إليه إنسانيته. ففي لحظات الانتظار تولدت أعذب الأشواق ونضجت أعمق الأفكار وازدهرت أصدق المشاعر وهو ما يجعلنا نتساءل: هل المشكلة في اختفاء الانتظار من حياتنا أم في أننا لم نعد نمنحه قيمة؟ قد لا نملك أن نوقف عجلة الزمن ولا أن نُبطئ التقنية التي تزداد تسارعاً كل يوم لكننا نملك أن نخلق لأنفسنا طقوساً نستعيد بها معنى الانتظار ، أن نزرع شتلة ونصبر على نموها، أن نقرأ كتاباً دون استعجال لنهايته، أن نصغي إلى شخص نحبه بتركيز كامل دون مقاطعة، أن نمارس التأمل ونترك الوقت ينساب بهدوء ، هذه التفاصيل الصغيرة تُعيد إلينا ما فقدناه القدرة على التمهل والتذوق العميق للحياة. في النهاية يبقى السؤال مفتوحاً : هل تلاشت قيمة الانتظار فعلًا؟ أم أن الإجابة تكمن في وعينا نحن وفي استعدادنا لاستعادة تلك القيمة رغم ضغوط العصر؟ قد لا يعود الزمن إلى بطئه الأول لكن بإمكاننا أن نصنع لحظاتنا الخاصة، نمارس فيها الانتظار كفعلٍ إنساني لا كعائق فالانتظار ليس وقتاً ضائعاً بل رحلة داخلية تمنحنا عمقاً لا يعرفه المستعجلون . * كاتبة وإعلامية