سر التزامن في توارد الأفكار والكتابة.

من مثالب انعدام القراءة الواسعة تعزير فكرة أن كلماتنا جاءت من أرض لم تطأها قدم أو بمعنى أننا نكتب فنعتقد أننا أصحاب البداية بينما هي كائن يتناسخ أو يتكرر ظهــوره وعبر أزمنة متعددة وعقول مختلفة - القول بأن “الذئاب خراف مهضومة” هو تشبيه مقتبس من مقولة للفيلسوف والشاعر الفرنسي بول فاليري، حيث قال: “الأسد ليس إلا بضعة خراف مهضومة.” كل الخشية لو كنا كذلك وما نحن عليه ظلال لأشجار قائمة! - لا أدين هنا صاحب فكرة قيلت. من أين له أن يعلم طالما خرجت من معتقله الكتابي البحت وعبر مساعيه وإمعانه في تحرير رأي؛ لا محالة قضى في سبيل اخراجه وقتًا طويلاً. أدين فكرة أننا اخترعناه بينما هو في الأصل اكتشاف ولكل طريقته في العرض بلا ريب - أعود لأذكِّر بتبرئة هذا الذي تناول تلك الفكرة أو ذاك الخاطر.. كشاهدة مطلعة أنه توصّل إليها دون علم مسبق.. كما لي عتب على محدودية الاطلاع وتلك العزلة التي تشكل لدينا نوعًا من الغرور الأبكم في حال لو كتبنا شيئاً وافق ما كتبه آخر بفارق بسيط بين الرؤيتين.. على العموم من شأن القراءة المترامية أنها تعلمنا درسًا قاسيًا.. وجميلًا في آن معًا فلسنا أول الواصلين، ولا آخر العابرين - لنتحدث قليلًا عن توارد بعض الأفكار هناك من عدّها كظاهرة لغوية حيّرت الفلاسفة والكتاب تلاق غير مرئي لأشخاص اجتمعوا على نفس السؤال. والوجع ذاته.. والرؤية بعينها بحث وجودي عليه أن يطرح لا ليدين بل لغرض أنه يمس صميم الكتابة والخلق والتفرد ويبقى التساؤل بالرغم من الملكية: هل سُرقت فكرتنا؟ أم هل لم تكن لنا بالأصل؟ أو لعل الفكرة كائن يبحث عن أكثر من وعاء ليتجلّى فيه؟ ولمَ لا تكون كبرق أضاء عقول شتى واخترق أكثر من ليل وهذا الحاصل غالبًا.. في محيط كاتب متجذر يتضح أنني دخلت غمار لعبة لغوية تكشف المأزق الوجودي بين الأصالة والتكرار - في سياق ما تحدثنا به أتذكر مقولة لبول فاليري “الأفكار لا تنتمي لأحد.. هي كالكهرباء، تُضاء في عقول متعددة في الوقت ذاته.” - وفي مكان آخر قرأت لشوبنهاور: “حين تظهر نفس الفكرة في عقلين مختلفين دون تواصل مباشر.. فاعلم أن الحقيقة كانت تبحث عن من ينطق بها”. - يبدو لمصطفى صادق الرافعي قول بهذا الشأن: قد تسبقك إلى فكرتك كلماتُ غيرك، فلا تظننهم سلبوك، ولكنها خواطر تتهادى على أرواحٍ متقاربة.” - بينما يطالعنا في الإتجاه ذاته اقتباس للفرنسي أنطوان دو سانت مؤلف رواية الأمير الصغير: “حين تنبثق نفس الفكرة في قلبين بعيدين فذلك لأن الروح الكونية همست بهما في اللحظة نفسها.” - “الكتب تُعيد كتابة نفسها في رؤوس قرّاء لم يلتقوا.. وتكتبها أيدٍ لم تعرف بعضها يومًا”. استدلال آخر والقائمة تطول لخورخي لويس بورخيس - إذن تكرار الفكرة في أماكن مختلفة دون لقاء مسبق يعكس أن الإنسان ليس كائنًا منعزلًا، بل هو جزء من وعي كوني واحد. * كاتبة سورية. مقيمة بإسطنبول