 
          في قلب غرناطة، على ربوة تتعانق فيها ظلال السرو والضوء المتكسر على الرخام، تمتد قصور الحمراء كأنها أنشودة من حجارةٍ تتكلّم، وماءٍ لا يكفّ عن الهمس، ونقوشٍ تخطّ الشعر في الجدران. ليست الحمراء صرحًا واحدًا، بل مجمعًا من القصور والحدائق والبوّابات والأسوار، شيّده ملوك بني نصر ليكون معقلًا للفن والسيادة، ومسرحًا للتاريخ حين يتجمّل. هناك، تنطق النقوش بعبارات منمّقة، وتتناثر الأضواء فوق الزخارف كأنها نُثار مجدٍ لم ينطفئ. في باحاتها وأقواسها، تتجلّى عبقرية العمارة الإسلامية وقدرتها على إدهاش الحواس والوجدان، في تكاملٍ نادر بين الدقة الهندسية والسمو الروحي وبلاغة الأدب، ومنذ قرون لم تَبرح الحمراء أن تكون بيتًا للشعراء، وملاذًا للفنانين، ومرآةً لذاكرة الأندلس التي لا تزال، رغم الزوال، حيّة في الحجر والماء والهواء. من حصن إلى قصور حين دخل محمد بن الأحمر غرناطة في عام 1238م (635هـ)، أدرك أن بقاء ملكه يتطلب أكثر من سيف، فاختار تلة سابيكا ليشيد فوقها معقلًا يجمع بين الحماية والهيبة، كانت البداية بإعادة بناء حصن قديم يعود إلى العصر الزيري، ليتحوّل تدريجيًا إلى نواةٍ لقصور الحمراء. ومع تعاقب الحكّام، خاصة في عهدَي يوسف الأول ومحمد الخامس في القرن الرابع عشر، بلغ المجمع ذروته العمرانية. فشُيّدت القاعات الكبرى، مثل قاعة السفراء، وباحة الأسود، بأسلوب معماري يمزج بين الدقة الهندسية والرمزية الروحية، حيث يصبح كل نقش معنى، وكل نافذة مشهدًا. لم تكن الحمراء قصورًا للسكن فقط، بل بيانًا بصريًا يعكس مكانة الدولة النصريّة وثقافتها، وظلّت كذلك حتى سقوط غرناطة في عام 1492م، حين توقّف البناء، لكن لم يتوقّف الأثر. سيمفونية الحجارة تبدو عمارة قصور الحمراء كأنها هندسةٌ من وحي الخيال، صيغت بعين فنان ويد مهندس، وبلغة تنطق بالجمال في كل تفصيلة. فكل جدار يروي قصة، وكل قوس يُعيد تعريف الضوء، وكل باحة تعكس انشغالات روحية لا تخلو من السياسة. اعتمد البنّاءون على الزخرفة الجبسية الغنية بالتفاصيل، والخشب المنقوش، والزليج الأندلسي ذي الألوان المتناغمة، لتُخلق بيئة بصرية تأسر العين وتحاورها. في قاعة السفراء، يعلو السقف الخشبي المذهل، والمصمم على شكل قبة سماوية رمزية، أما باحة الأسود الشهيرة، فتتوسطها نافورة تحملها اثنا عشر أسدًا منحوتًا، في تجسيد فريد لتوازن القوة والجمال. نظام توزيع الماء في الحمراء ليس تزيينيًا فقط، بل هو معمار دقيق، ينقل الماء بهدوء إلى النوافير والممرات عبر قنوات مخفية، في انسجام تام مع طبيعة المكان. وهو ما يتلاقي ليؤكد في النهاية أن هذه القصور لم تُبنَ لتكون مأوى، بل لتكون بيانًا فنيًا، يجعل من الحجر قصيدة، ومن الفراغ نَفَسًا معماريًا لا يُنسى. جدران تهمس شعرًا منذ ولادتها؛ كانت قصور الحمراء كيانًا أدبيًا مفعمًا بالشعر والصورة والرمز. فقد امتزج الفن المعماري فيها بالكلمة، فامتلأت جدرانها بالنقوش الشعرية التي لا تزال تقرأها العين كما تُقرأ القصيدة، خُطّت بخط النسخ والكوفي، تحمل آيات قرآنية، وأبياتًا نظمها شعراء البلاط كابن الجياب ولسان الدين بن الخطيب وابن زمرك، تخليدًا لأمجاد الملوك ومآثر العمارة. كل ركن في الحمراء يحمل بيتًا أو توقيعًا شعريًا يُزيّن المحراب أو يطوّق الباحة، حتى صار الشعر جزءًا لا يتجزأ من هوية المكان. وفي العصر الحديث، أسرت الحمراء خيال الأدباء والرحّالة الغربيين، وعلى رأسهم الكاتب الأمريكي واشنطن إيرفينغ الذي أقام فيها فترة من الزمن مطلع القرن التاسع عشر، وكتب مجموعته الشهيرة «حكايات الحمراء» (Tales of the Alhambra) التي ألهمت الأدب الأوروبي، وساهمت في إعادة اكتشاف الحمراء عالميًا. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الحمراء رمزًا يتردّد صداه في الشعر والسرد والرؤية الفنية، حتى بدا أنها كُتبت لتُقرأ مرتين: مرة كعمارة، ومرة كنصٍ حيّ ينبض بالجمال والمعنى. مصدر جذب سياحي تُعدّ قصور الحمراء وجنّة العريف (Generalife) اليوم من أكثر المواقع الأثرية زيارة في إسبانيا، وقد سجّلت رقمًا قياسيًا قدره 2.60 مليون زائر في عام 2023، بزيادة بلغت نحو 9 % مقارنةً بعام 2022، مما يعزز موقعها كقمة التراث السياحي في البلاد، ومع استمرار النمو، اختتم المجمع عام 2024 بعدد 2.72 مليون زائر، بارتفاع نسبته 6.8 % عن العام السابق، وهو ما يُعدّ أفضل حصيلة على الإطلاق منذ ما قبل جائحة كورونا، وفي النصف الأول من عام 2024، تجاوز عدد الزوار 1.3 مليون. كما تجدر الإشارة إلى تنوع الجنسيات بين الزوار، حيث يشكّل الأجانب غالبية الوافدين: الأمريكيون يمثلون نسبة متزايدة وصلت نحو 8–9 % من الإجمالي في صيف 2024، تليهم الفرنسيون الذين شكّلوا نحو 6–7 %، بينما الإسبان مثلوا حوالي 34–35 ٪ من الزائرين، بحسب بيانات «Patronato»، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن إدارة وحماية وصيانة مجمّع الحمراء وجنّة العريف في غرناطة. ولا شك أن هذا الإقبال غير المسبوق لا يقتصر على الأرقام فقط، بل يعرّف بمدى الاهتمام العالمي بتراث الأندلس، حيث تحتل الحمراء المرتبة الأولى ضمن معالم الأندلس الثقافية، كما أنها ضمن قائمة أكثر المعالم زيارة في أوروبا، وربما تحتل مكانة متقدمة عالميًا ضمن أبرز المعالم السياحية حول العالم. غرائب الحمراء تزخر قصور الحمراء بحكاياتٍ طريفة لا تقلُّ إثارة عن جمالها المعماري. أولًا، اسمها نفسه يعني «الحصن الأحمر» بالعربية، وهي تشير إلى اللون الأحمر الذي اكتسبته جدرانها من الطين المحلي الغني بأكسيد الحديد، كما يُقال إن «الجدران تتكلّم»: فشعراء مِن بلاط بني نصر نقشوا أبياتهم على الحوائط، بما فاق مجرد الزخرفة إلى الروحانية الأدبية، فبدت الجدران تُشيّد قصيدة حيّة من الحجر تدعو كل زائر إلى القراءة والتأمّل. من بين الزوايا الغريبة في الحمراء وجود نظام مائي ذكي يُخَيّل للزائر أنه يهمس: فقد بُنيت أنابيب ومجاري ماء دقيقة تنقل مياه نهر دارو بحركة ترقص في النوافير، فتعدّ بمثابة «ساعة مائية» تعمل عبر تدفق الماء وضجيجه المنظم، ولم تخلُ الحمراء من أساطير محبّبة، منها القصة التي تقول إن فتح بوابة العدل يعني نهاية العالم، ويُروى أن النقش فوق القوس يرمز إلى قوة أسطورية، وهذه إحدى الأساطير المتداولة التي تُضفي على المكان بعدًا رمزيًا شاعريًا. فنظام التزييف الزمني في القاعات لم يتوقف هنا، فقد أُحاطت جدران القصر بمعاني ورموز خفيّة، مثل الآية «لا غالب إلا الله» التي تتكرّر في العديد من الأنماط الزخرفية كرسالة روحية وتعبير عن الهوية النصريّة العميقة. وأخيرًا، كان من الملفت أن السقف الخشبي في قاعة السفراء لم يُزخرف فحسب، بل حرّك خيال الرحّالة الأوربيين. هكذا أصبح هناك ما يُسمّى بالأسلوب الألهامبراسكي (Alhambresque)، وهو طراز معماري رشّده الرحّالة اللاحقون في أوروبا وأمريكا بعد أن زاروا الحمراء وتعلّقوا بها. ------ «قصور الحمراء» في ذاكرة العرب.. جائزة الملك فيصل توثق بالصور أشعار قصور الأندلس. تثمّن اليمامة مبادرة جائزة الملك فيصل في إهدائها نسخا من صور قصور الحمراء، وهي الصور التي ننشرها هنا مع هذا التحقيق، والتي توثق النقوش الشعرية على جدران الحمراء بروح العلم والجمال. وكانت جائزة الملك فيصل قد دشنت كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء»، بمدينة غرناطة، برعاية كريمة من الأمير تركي الفيصل، رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. الكتاب الذي ألفه الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع، الحاصل على جائزة الملك فيصل، والدكتور خوسيه ميغيل بويرتا فلتشث، عضو الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة، يعد محاولة علمية لإحياء النصوص الشعرية المنقوشة على جدران قصور الحمراء، وإبراز بعدها الجمالي والثقافي. وقد عمل المؤلفان على جمع الأشعار من مصادرها الأندلسية وربطها بمواضعها الأصلية داخل القصر، مع تحقيقها والتعليق عليها، وتحديد قائليها قدر الإمكان. ويغطي الكتاب نصوصًا من قاعات بارزة مثل: المشور، وقمارش، وقاعة البركة، وقصر الأسود، وشرفات لندراخا، إضافة إلى مبانٍ فريدة مثل: قصر الدشار، وبرج الأميرات، فضلًا عن نقوش وُجدت على شواهد قبور لملوك بني نصر في روضة الحمراء. وصدر بدعم من جائزة الملك فيصل، وبالتعاون مع إدارة الحمراء وجنة العريف، في طبعة فاخرة مصحوبة بملحق بصري، يُمكّن القارئ من مقارنة النص المنقوش بالنص المطبوع، ويتيح قراءة متكاملة تمزج بين التحليل النصي والبعد الجمالي.
