في غزة، حيث تُقاس الحياة بوقع الانفجارات لا بعدّ السنين، خرجت المصورة والصحفية الفلسطينية «فاطمة حسونة» تحمل كاميرتها كما يحمل المقاتل بندقيته، تبحث في الركام عن بقايا حياةٍ تُكذّب موت المكان. لم تكن مجرد مصوّرة صحفية، بل كانت ضميرًا بصريًّا لوطنٍ يختنق تحت الحصار، وعدسةً تُصرّ على التقاط النور من بين الشظايا. بين دويّ طائرات الاحتلال الإسرائيلي وأصوات القنابل، كانت فاطمة تكتب رواية فلسطين بالضوء، تُوثّق وجوه الأطفال وهم يلوّحون للحياة رغم الجوع، وتُلاحق ظلّ أمٍّ تبحث عن ابنها في الغبار، وحين استهدفتها الطائرات الإسرائيلية في أبريل الماضي، لم تُطفأ كاميرتها، بل غدت صورتها الأخيرة شهادةً خالدة على توحّش المحتلّ الإسرائيلي، ومرثيّةً مضيئة لامرأةٍ واجهت رصاص الاحتلال بعدسةٍ لا ترتجف، فكانت حياتها امتدادًا للصورة، وصورتها عهدًا بالخلود. التصوير فعل مقاومة لم تكن «فاطمة حسونة» مجرّد اسمٍ عابر في سجلّ الشهداء الفلسطينيين؛ بل كانت وجهًا يُشبه الوطن، وصوتًا يلتقط أنين الأرض وهمس البحر. وُلدت في الثاني من مارس عام 2000م في مدينة غزة، درست الوسائط المتعددة في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، واختارت منذ بداياتها أن تجعل من الصورة وسيلتها للنجاة وللشهادة معًا. ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر 2023، كانت فاطمة بين أولئك الذين حملوا الكاميرا إلى خطوط النار، ليس بحثًا عن مجدٍ إعلامي، بل لتقول للعالم: إن الدم الفلسطيني ليس خبرًا عابرًا، بل حكايةٌ تفيض بالكرامة والوجع. كانت تؤمن بأن التصوير فعل مقاومة، وأن العدسة يمكن أن تُسقط جدار الصمت مثلما تُسقط القنابلُ الجدران. ومن بين الركام والرماد، كانت تلتقط لحظاتٍ صغيرةً من الحياة اليومية لأهالي غزة: صيادٌ يعود من البحر بلا صيد، طفلٌ يرسم بيتًا على رملٍ ملوثٍ بالبقايا المعدنية، أمٌّ تُمسك بيد ابنها أمام بيتٍ محطّمٍ، تلك الصور لم تكن لقطاتٍ صحفية فحسب، بل شهاداتٍ إنسانية بليغة، تختصر المأساة وتمنحها معنىً متجددًا للحياة. عـين غـزة مع مرور الأشهر الثقيلة من الحرب، تحوّلت فاطمة إلى صوتٍ لمدينتها في وسائل الإعلام العالمية. كانت صورها تنشرها وكالات كبرى، وتحظى بانتشار واسع على وسائل التواصل الاجتماعي. غير أنّها، وسط هذا الضوء العابر، ظلت مخلصة لفكرتها الأولى بأن تظلّ عينها في قلب الحدث، لا خلف الشاشات. كتبت ذات يوم على حسابها في «إنستغرام»: «أنا لا أبحث عن صورةٍ جميلة، بل عن حقيقةٍ صادقة، مهما كانت دامية». بهذا الإيمان العميق، وثّقت فاطمة لحظاتٍ لم يكن يسعف الوقت لالتقاطها. صور لأطفالٍ يبحثون في الركام عن ألعابهم، لمسنٍّ يجلس أمام منزله المهدّم يتمتم بآياتٍ من الصبر، ولشوارعٍ كانت يومًا تضجّ بالحياة قبل أن تُحوّلها الغارات إلى أطلال. كان في كلّ لقطةٍ حكايةُ مدينةٍ محاصَرة، وفي كلّ زاويةٍ من صورها ظلٌّ لروحها المضيئة. في يناير 2024، فقدت فاطمة أحد عشر فردًا من أسرتها في غارةٍ إسرائيلية استهدفت منزلهم. لم تنكسر. كتبت بعدها منشورًا مؤلمًا قالت فيه: «حين يُقتل بيتك، عليك أن تزرع له ذاكرة في الصورة». وواصلت التصوير كمن يوثّق العالم قبل أن ينهار، كأنها كانت تدرك أنّ العدسة هي الشاهد الأخير على ما يُمحى. لم تكن كاميرتها مجرّد أداةٍ مهنية، بل امتدادًا لقلبٍ يرى ما لا يُرى. كانت تلتقط الألم لا من أجل الحزن، بل من أجل أن يبقى معنى الصمود حاضرًا في وجه الفناء. فاطمة في مهرجان «كـان» بلغت شهرة فاطمة ذروتها عندما اختير الفيلم الوثائقي «ضع روحك على يدك وامشِ»، الذي جسّد سيرتها، للمشاركة في برنامج «جمعية السينما المستقلة للتوزيع» في مهرجان كان السينمائي لعام 2025. الفيلم، الذي أخرجته المخرجة الإيرانية سبيده فارسي، كان مشروعًا فنيًا وإنسانيًا تتبّع حياة فاطمة في قلب الحرب، وكيف كانت تُخاطر بحياتها لتوثيق الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين. في ذلك العمل، تظهر فاطمة لا كمصوّرةٍ فقط، بل كرمزٍ لصمود المرأة الفلسطينية، التي لا تفقد أنوثتها ولا إنسانيتها رغم الجوع والدمار. قبل يومٍ واحدٍ فقط من استشهادها، كانت فاطمة قد تلقت خبرًا بأن الفيلم اختير رسميًا للعرض في مهرجان كان، وكتبت في مفكرتها: «ربما أذهب إلى فرنسا لأتحدث عن غزة.. عنّا نحن الذين نعيش وسط العدم»، لكنها لم تذهب. في اليوم التالي، سقط صاروخ إسرائيلي على منزل عائلتها في حي التفاح بمدينة غزة، فاستشهدت هي وعشرة من أفراد أسرتها، بينهم أختها الحامل. لم يُمهلها الاحتلال أن تفرح بالخبر السار، ولم يمنحها فرصةً لاحتفالٍ مؤجّل بزفافها الذي كان مقررًا بعد أيام. نورٌ وسط العتمة لقد أحسّ أهل غزة بفقدها كأنّهم فقدوا عينًا تُبصر عنهم. لم يكن رحيلها حدثًا فرديًا، بل وجعًا جماعيًا لمدينةٍ اعتادت أن تودّع أبناءها كلّ يوم، لكنها حين ودّعت فاطمة، شعرت أنّها تودّع ضوءها الأخير. أدانت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والعربية جريمة اغتيالها، لكن فاطمة كانت أكبر من بيانات الإدانة؛ كانت رمزًا إنسانيًا تجاوز حدود المكان، حتى إنّ الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، رئيسة لجنة تحكيم مهرجان كان، استحضرت اسمها في كلمتها الافتتاحية للمهرجان قائلة: «نُهدي هذه الدورة إلى روح المصوّرة الفلسطينية فاطمة حسونة، التي قُتلت وهي تحمل الكاميرا كما تُحمل الحقيقة». كان المشهد مهيبًا، فصورتها التي التُقطت قبل أسابيع من رحيلها تصدّرت الشاشات العالمية، شاهدةً على أن الصورة، وإن ماتت صاحبتها، لا تموت. في شهادات زملائها وأصدقائها، تبدو فاطمة ككائنٍ من نورٍ وسط العتمة. كتب الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة عنها: «كانت أغنيةً تُغنّى على سطحٍ في غزة، صارت أغنياتٍ في قلوب الأصدقاء... كتبت نفسها مرّة واحدة بدمها، ثم انتقلت إلى الأغصان، وما زالت هناك، تزهر»، أما الكاتب المقداد جميل فقال: «فاطمة لم تكن صحفيةً فقط، كانت قلبًا يصوّر. رحلت كما أرادت، موتًا صاخبًا يسمعه العالم، لأن حياتها كانت هي الضجيج الجميل للحقيقة»، وفي حديثٍ مؤلمٍ بعد رحيلها، روت المخرجة سبيده فارسي: «كانت فاطمة مليئةً بالإشراق، تبتسم رغم كل شيء. كنت أقول في نفسي: كيف تخاف امرأةٌ لا تخاف الطائرات؟ كانت تضحك حين نسمع صوت القصف، ثم تهمس لي: دعينا نصوّر، الصورة أهمّ من الخوف». نبوءة أخيرة آخر ما نشرته فاطمة على صفحتها في «فيسبوك» كان مجموعة صورٍ لصيادي غزة على الشاطئ، مرفقةً بعبارةٍ كتبتها بخطّها: «من هنا تتعرف على المدينة، تدخلها، لكنك لا تغادرها، لأنك لن ترحل، ولن تستطيع»، كأنها كانت تكتب وصيتها الأخيرة، وتعلم أن غزة ستبقى في صورها كما بقيت هي فيها. بعد استشهادها، امتلأت الصفحات بمن يرثيها، ويكتب عنها شعرًا وحكايات، حتى أولئك الذين لم يعرفوها شخصيًا شعروا أنهم فقدوا قريبةً لهم. ذلك لأن فاطمة كانت تمثّل في وعي الفلسطينيين الجيل الذي اختبر كلّ وجوه الفقد، لكنه ظلّ متمسكًا بالحبّ وبالضوء. لم يكن استشهادها نهاية القصة، بل بدايتها الجديدة. إذ تحوّلت صورها إلى رموزٍ في معارض دولية، وعُرض فيلمها في مهرجان كان بحفاوةٍ استثنائية. هناك، في القاعة المهيبة، وقف الحاضرون يشاهدون على الشاشة وجهها المبتسم وهي تقول في الفيلم: «إذا متّ، أريد موتًا صاخبًا، لا أريد أن أكون رقمًا في خبرٍ عاجل»، تحققت نبوءتها القاسية. كان موتها صاخبًا، لا بالضجيج، بل بالضوء الذي عمّ العالم، وهكذا بقيت صورتها الأخيرة مرآةً للعالم ليرى نفسه في وجع فلسطين، وبقيت غزة كما أرادتها: مدينةٌ من الصور الحيّة، لا تُؤسر، ولا تُمحى، ولا تموت.